شعار قسم مدونات

فلسفة محمد إقبال الشعريّة

blogs محمد إقبال

محمد إقبال هو أحد كبار فلاسفة الإسلام وشعرائه في العصر الحديث؛ فقد امتزج وانصاغ فكره على طابع القرآن وقامت فلسفته إنطلاقاً من نص القرآن كانما جعل النص القرآني محور فكره وفلسفته. نتناول في هذا المقال قليلاً من أبياته التي تعبر عن فلسفته القرآنية العظيمة، فشِعر إقبال يمتاز بالجمال الرفيع والتركيب المذهل بين مكونات الذات الإنسانيّة.

 

إن المُلاحظ في شعر إقبال هو مزجه بين معركة المؤمن في الأرض وبين علاقته بالله تعالى، وهو يؤكد على ذلك في كثير من أبياته الرفيعة، فالمؤمن في نظره ليس من اتجه لله دون عمل على الأرض ولا من عمل في الأرض دون توجه إلى الله؛ ويتمثل ذلك ويتجلى في أبيات عديدة من أشعار إقبال.

  

عنصر التحرر في فلسفة إقبال الشعرية

ما أروع إقبال لمّا قال:

لي في الجهاد يدٌ فرعون يخشاها

بيضاءُ ما مدتْ إلا لمولاها

 

ويعني إقبال بهذا البيت العميق أن يد المؤمن لابد أن يخشاها فرعون ولابد أن تكون وثيقة العلاقة بالله تعالى فلا تمتد إلا لمولاها الذي خلقها عفةً وتحرراً، كما أن إقبال يعكس رؤية إسلامية عظيمة بهذا البيت مفادها أن المؤمن لابد له من مقاومة جبروت المستكبرين المتفرعنين في الأرض لأن في ذلك تأكيد لألوهية الله تعالى ودحر للظلم والإستبداد، فاليد التي لا يخافها فرعون لا يحبها الله. فكأنما إقبال قد إنبعثت أبياته هذه لما قرأ قوله تعالى (ولقد بعثنا)، فكما قلنا أن إقبال صاغ فكره على أسس الوحي.

 

بل يمضي إقبال ببيت أكثر جمالاً وروعة يعكس نفس الفلسفة التحريرية الدامجة بين توطيد العلاقة بالله ونبذ الخضوع لغيره، وهذه المرة هو بيت شعري يوضح فلسفة السجود فيقول إقبال:

ليس السُجُودُ تهدُّل الكتفين من فَرطِ القعود

ما كانَ يغني عن سُجودٍ آخرٍ فهو السجود

 

ما أرفع وأدق وأسمى هذه الأبيات؛ إنها عظيمة لإقتباسها من عظمة الوحي والتصاقها بنص القرآن وفكرته الفلسفية المركزية في تحرير الناس، كما هي إنعكاس وتعبير عميق لفلسفة السجود التي يريدها الله وهي أن تتحرر الروح من ربقة السجود لغير الله وتخوض عراكاً من الإستبداد وهي تعني بصورة أدق أن يمتلئ القلب بهذا السجود فيستغني عن غيره من حاجات الارض من بشر كان او حجر أو شجر. ويؤكد ذلك قول إقبال في بيت آخر يزداد سموّاً ورفعة وروعة :

أنت عبدُ اللهِ فالزمْ ليس للحرِ تحوّل

ما سوى عزُّ العبودية لله تسوّل

 

ولإقبال ورحه علاقة متينة بالخليل إبراهيم فهو مؤسس صرح التحرر والإنعتاق والتوجه لله وحده خضوعاً ونبذاً لكل من سواه من أصنام بشرية وحجرية ومذهبية، فيقول إقبال كعادته في بيت يرفع الروح :

نحتُ أصنامَ آزار صِنعةُ العاجزِ الذليلْ

والذي يطلبُ العلا حسبه صنعة الخليلْ

 

فصنعة إبراهيم هي صنعة التحرر والتوجه لله في منهج الحياة تحرراً من كل شيء، وأبيات إقبال في جانب الإنعتاق لله كثيرة عميقة.

 

مجابهة الطغاة في فلسفة إقبال الشعرية

من أجمل مقولات إقبال قوله :"إن الدين من غير قوة مجرد فلسفة" أي أنه بلا عمل هو تنظير مجرد، فالإسلام أمر بالعمل جهاداً في الارض سعياً لبث قيمه وتوطيدها، ومن هنا فإن أشعار وأبيات إقبال تتوجه للعمل وتُخرِج المؤمن من صومعته للحياة يخوضها بمشاكلها ليعالج ما فيها من خلل فبقدر حاجة المؤمن إلى الخلوة بالله في العبادة هو أيضاً بحاجة للتعبد في شأن الحياة العامة، والإسلام ليس دين رهبنة بل دين عمل وسياسة وجهاد. وتبرز هذه الفلسفة قوية في أشعار إقبال حيث يقول في هذه الأبيات الرفيعة:

ليسَ منّا من ثوى صومعةً

يحبسُ الأعمالَ والفكرَ معا

ليس شيئاً أن تُرى معتزلاً

خاشعاً تخشى البرايا وجِلاً

 

فمهةُ المؤمن إذا هي مهمة حياة ومعالجة مشاكل لا انكفاء على الذات وإن كانت النفس في حاجة للروح كثيراً لكنها يجب أن تنطلق في رحاب الأرض تدبُّ بالإصلاح والحركة لا الجمود والخمول، بل يمضي إقبال في بيت آخر مليء بالجمال محشو بالروعة عميق في الدقة والوصف، فيصف حالة الوهن التي تتمثل في إحتضان أمجاد الماضي وبطولاته دون العمل في الأرض وجعل الماضي والفخر به حاجزاً وحاجباً عن خوض معترك الواقع، فيقول إقبال متهكماً:

مجدكم في الأرض لا تصنعه

جثثٌ تسكن في جوف المقابر

فخذوا أقداركم وأستبقوا

وأصعدوا أنتم على تلك المنابر

 

ويعني إقبال هنا أن يبادر الناس بالتوكل على الله والعمل وترك الوهن والتعلق بأمجاد الماضي دون جهاد واقعي يغيّر إنحراف الحياة ويحل ما بها من معضلات.

 

ويتحدث إقبال في أبياته ذات النسق الفلسفي الجميل الذي يدعوا للتضحية والبذل ضد الطغاة والمتجبرين فيقول في بيت عميق كأنه يمثل صورة الميلاد للأمم التي تضحي وتبذل لنهضتها:

ألفُ إبراهيمَ في النار إغتدى

لسراجٍ يرتجى من أحمـدا

 

إن هذا البيت بحروفه القليلة هذه يمثل فكرة مركزيّة عميقة فإبراهيم عليه السلام لمّا ضحى بنفسه في النار ما ضحى عن فراغ وما ذهبت تضحياته سدى بل ضحى لإنبعاث أكبر حضارة عرفتها البشريّة وهو سراجُ الرسالة الإسلامية التي عرفتها الأرجاء وانبثت روحها في الأمم، وكلمة (الف) الواردة في البيت دلالة على التكرار من نماذج التضحية عبر قرون البشريّة فكل أمة تضحي ضد فناء الإستبداد لن تذهب جهودها ادراج الرياح بل هناك مشاعل ستتقد في يوم ما ويزول الطغاة ويندثر الجبروت.

 

ويتحدث إقبال في بيت آخر هو أشد رفعة وقوة يعكس فيه مسلك المسلم الحقيقي مع الجبارين وتوكله ومقاومته للإستبداد قائلاً:

المسلمون على عنايةِ ربهم يتوكلون

لا خوفَ يرهبهم ولا هم في الليالي يحزنون

لو مر أصغرهم على فرعونَ يجتز الرؤوسا

لآراك في الإفصاح هاروناً وفي الإيمان موسى

 

لقد ذهب إقبال في آبياته الجميلة المتحدثة عن مواجهة الواقع ونهضة الأمم بعيداً متحدثاً عن خطوات نهضة الأمم بابيات سامية مذهلة قائلا:

الخطوةُ الأولى لنهضةِ أمةٍ

تحريرها بالعزم والإصرارِ

لو أمكن التطهيرُ أمكن بعده

أن يبدأ التعميرُ للأفكارِ

 

فإقبال هنا يعني أن الأمة الفاقدة للإيمان والروح الدافعة للتطهُر فهي غير قابلة لتغيير أفكارها فالروح هي المحرك لكل نهضة أمةٍ من الأمم.

 

كانت تلك سياحة شعرية مع بعض أشعار إقبال ذات الروح الفلسفيّة المركبة بين ألوهية الله وخوض المعركة في أرضه ضد وثن السياسة والعقيدة والتحرر والإنعتقاد من ربقة الإستبداد وبناء الحضارة الحرة التي تعطي للإنسان إعتباره وكرامته. ألا رحم الله الشاعر والفيلسوف العظيم محمد إقبال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.