شعار قسم مدونات

طه حسين.. المتمرِّد الذي نصره اللَّه!

blogs طه حسين

عَنْ عَاصِفةِ الجَدَلِ الكُبرى، الكَاتِب الذي لمْ يعرف قلَمُه الهدوء قط، النَاقِد المُتناقِض، الذي بدأ رحلته مع العلم والدين مذ كان في التاسعة مِنْ عمره؛ إذ أتمّ حفظ القرآن الكريم، ومذ وطأت قدمه الأزهر -بقعة النور- أعمل عقله فيما يدور حوله من بدعٍ وخرافات، فكانت مواقفه مختلفة، لا يميل إلى درب القطيع، ويجنح إلى قريحته الفحّاصة، ونفسه المتسائلة، أخطأ مرات وأصاب أخرى، إنّه كاتب أشهر سيرة ذاتية عرفها الأدب العربي الحديث، الكفيف الذي رأى عقله ما لم يرَه المُبصرون، مَن خط قلمه ما لم يهتدِ إليه إنسانٌ آخر، شاعت فيه الآراء وكثرت عنه الأقوال؛ إذ خاض تجربة فريدة، وكانت مؤلفاته نتاج رحلة عظيمة بدايتها مغاغة بالمنيا حيث صعيد مصر، مرورًا بفرنسا حيث السوربون، ونهايتها القاهرة، وما بين هذه وتلك معاركٌ وقضايا، وتكفير وصراعات لازال صداها يتردد كل يومٍ، ولكن ترى أكان طه حسين ظالمًا أم كان مظلومًا؟ وهل يعرف كارهوه كيف انتهت حياته، وماذا عن الأقوال الساذجة التي نشرت باسمه ولم يلفظ حرفًا منها؟ هل نصر طه الإسلام كما أخل ببعض ما فيه؟ وكيف ينصره الله؟ أليس هو من دعى للتغريب، وعاب وقدح في الإسلام؟ هذا ما نتناوله هنا بالتفصيل.

الطفولة مرحلة هامة في حياة الإنسان؛ إذ هي موضع الأساس الذي سيتشكل عليه جُل حياته، والعوامل التي يتعرض لها فكريةً كانت أو بيئية تشغل حيزًا كبيرًا في تكوينه المُستقبلي، وطه حسين الذي عاش طفولة بائسة فقد فيها بصره جراء جهل مُجتمعي ظل يطارده طويلًا في كل أمور الحياة، غير أنّه لم يستسلم له، ولكن هُمِّش طه، وكسرت أجنحته، وذاق المرارة في كل شيء، فعزم على رد الألمَ آلامًا إلى الجميع، وعندما وصل عقله المهد الأول أخذ ينظر للأمور نظرة نقدية مختلفة، وساعده على ذلك عقله المُتطلع، ورغبته الثائرة، ونفسه الدوارة، وشغفه بالكتب، وسماعه لحكايات النسوة، وحفظ الأغاني، وحضور جلسات الشعر، الأمر الذي فتح ذاكرته على السيرة العربية الأولى، حتى إذا ما انضم للأزهر ووصل عقله المهد الثاني، أطلق رأيه في كل أعلام القرية، وشيوخها، حتى والده لم يسلم منه، مِنْ هُنا اتبع طه حسين هذا النظام الذي نشأ عليه وهذا مفتاح مهم لقراءة سيرة حياته.

ظهرت معظم مؤلفات طه حسين التي أثارت جدلًا واسعًا منها مشاركته في كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق، وكتابه "في الشعر الجاهلي" الذي ظهر نتيجة غلو الشك الديكارتي والقيم والأفكار الغربية التي تأثر بها طه حسين

سافر طه حسين من المنيا إلى القاهرة دارسًا في الأزهر، فارًا من معاناته المُتجددة لكن -لسوء الحظ- لم يتغير الأمر كثيرًا؛ إذ تركه أخوه في غرفته أوقاتًا طويلة يقاسي مرارة الوحدة، ويحارب أشباح الخيال، غير أنّ معاناته قُطعت سريعًا هذه المرة؛ إذ تعايش مع الأزهر وكون صُحبة من الأصفياء، واختلف إلى دروس علمائه وشيوخه ليل نهار، وتأثر بدروس الشيخ محمد عبده تأثرًا كبيرًا، ودرس النحو والفقه والبلاغة، وكعادته هاجم طه الأزهر وهو أزهري وأطلق لسانه في علمائه وشيوخه، حتى تفاقم الأمر، وكاد أن يُفصل لولا فضل الله، من هنا ضاق الأزهر بطه ضيق السجن بالمظلوم، وعندما افتُتحت الجامعة المصرية هرول إليها يطلب العلم ويفر من الأزهر، الذي لم يعد ينتسب إليه إلا في القليل من الدروس، كان طه ذا همة عالية، وعزيمة قوية لا تهدأ حتى تنال ما ترغب، هنا تظهر مثابرة طه الذي عاش وتكبد المعاناة في المجتمع، لكن شيئًا لم يثنِه عن أحلامه، وهذا مفتاح آخر لفهم سيرة حياة طه.

لكي نتناول سيرة طه حسين جيدًا علينا أن نقرأ كتابه "الأيام" بعينه التي لم ترَ النور قط وشعوره الذي لم يعرف السعادة إلا قليلًا، أن نُمدَ للكلمةِ في عقولنا مَدًا مِنَ الخيال، فنفطن الحالة، ونستشعر الموقف كما لو أننا مَنْ يعيشه، هذا دربٌ إن سلكناه حقًا، وأخلصناه عدلًا وصلنا إلى طه الذي لم يعرفه إلا القليلون، وإلا فهناك درب آخر اهتدى إليه الدكتور محمد عمارة وسجله في كتاب اسمه "طه حسين من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام" والذي نشر مع مجلة الأزهر في أحد أعدادها وفيه تنقسم رحلة الدكتور طه إلى أربع مراحل في كل منها معطيات مختلفة، وهذا الكتاب من المؤلفات القليلة التي أعطت لطه حسين حقه، وأجابت على كل الأسئلة التي طرحناها بداية المقال.

من الملفت الجميل رسالة الكتاب التي قال عنها المؤلف: "هذا كتاب، لن يجد فيه القارئ أثرًا يذكر لما كتب الآخرون عن طه حسين، سواء منهم المتعصبون له، أو المتعصبون ضده، وإنما سيجد نصوص طه حسين ذاته، طيًا للجدل العقيم حول إبداعاته، ولسحب البساط من تحت أقدام أسرى التغريب والعلمانية والغزو الفكري، الذين يتمسحون بهالات هذا الرجل العظيم، وليتعلم «الإسلاميون» المنهاج العلمي في دراسة تاريخ الأفكار، فيستردون الرموز، بدل التفريط فيها، حتى يزداد ثراء الساحة الفكرية الإسلامية، بدلاً من المنهاج الإقصائي الأخرق". أما المراحل فجاءت على نسق بياني رائع لفكر الدكتور طه حسين، حتى أنصفته، وكشفت الحقيقة التي عمى عنها الكثيرون.

المرحلة الأولى: الشيخ طه حسين (1908-1914 م)
وهي المرحلة التي بدأها مُلتحقًا بالجامعة المصرية بعدما رحل عن الأزهر وعالميته، بدا واضحًا في هذه المرحلة ميله إلى الدين الإسلامي وتعاليمه، وإقرار أهمية تطبيق ذلك في دروب الحياة كافة، وأنه لا تقدم بغير الإسلام، لكنه زُعزِع فيها، وشُتت بين حزب الأمة الذي يدعو إلى الوطنية المُجردة من أي شيء بقيادة أحمد لطفي السيد، والحزب الوطني الذي يدافع عن المرجعية الإسلامية، ويدعو لها بقيادة زعيمه مصطفى باشا كامل، وهي مرحلة انتهت بسفر طه إلى السوربون لنيل درجة الدكتوراة في الأدب بعدما كان أول الحاصلين عليها في الجامعة المصرية عن كتابه "مع أبي العلاء في سجنه" والذي اتُهم فيه بالزندقة والإلحاد.

المرحلة الثانية: التأثر الشديد بالغرب (1919- 1930 م)
في هذه المرحلة يظهر إعجاب طه حسين بكل ما هو غربي، حتى أنه حاول إلحاق كل ما هو إسلامي عربي بهذا النموذج الحضاري الغربي، وفيها كثرت معارك طه حسين، وامتدت لتصل البعيد والقريب؛ إذ ظهرت معظم مؤلفات طه حسين التي أثارت جدلًا واسعًا منها مشاركته في كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق، وكتابه "في الشعر الجاهلي" الذي ظهر نتيجة غلو الشك الديكارتي والقيم والأفكار الغربية التي تأثر بها طه حسين، وكانت النور الذي يسير به، وقبلته التي يهتدي إليها، حتى أنّه تزوج بسوزان الفتاة الفرنسية النصرانية، والتي باتت عينه التي يقرأ بها، وعقله الذي يفكر به، في هذه المرحلة كان طه حسين في ذروة تأثره بالغرب، وبعده عن الإسلام، ولا شك أنه أخطأ في أمورٍ كثيرة، عاد هو نفسه وصححها.

undefined

المرحلة الثالثة: التناقض والرجوع (1932-1952م)

مرحلة فيها تناقض عجيب؛ إذ كتب طه حسين كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" الذي مثل نهاية تأثره وقيام مشروعه الفكري تقليدًا للنموذج الغربي، غير أنه بدأ الكتابة في الإسلاميات ودافع عن الإسلام ضد التنصير فكتب في الأولى كتابه "على هامش السِّيرة" بأجزائه الثلاثة وقدَّم فيه مقالًا في العقل مثَّل تطورًا كبيرًا وحاسمًا إزاءَ موقفه القديم، وفيه حث على إصلاح العقل بالمعجزة القرآنيَّة التي يفهمها العقلُ فلا يستطيع إنكارها، ويُكْبرها فلا يستطيع عليها تمردًا ولا طغيانًا، كما أكد على شمول الإسلام للدين والدولة كمنهج شامل متوازن للحياة.

المرحلة الرابعة: الانتصار للإسلام (1952-1960م)
وفيها ظهرت تحولات فكر الدكتور طه حسين نحو الإسلام والعروبة بشكل كبير؛ إذ أكد على حاكمية القرآن الكريم، وامتثاله لما نزل به القرآن، وورد عن الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- حتى أنه زار أرض الحجاز وكان للزيارة أثرٌ بالغٌ عليه؛ رجع منها وقد ثبت قلبه وعقله على الإسلام، وليس ذلك فحسب، إنما كتب كِتابه "مرآة الإسلام" 1959م، الذي يكشف فيه عن ألوانٍ من إعجاز النظم القرآني، ثم ختَم بكتابه "الشيخان" 1960م، عن سيدنا أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- فكانت خاتمته نعم النهاية؛ إذ أكرمه الله ونصره في الدنيا حق النصر على كل الذين ظنوا به غير الخير، وعلى المغريات الكثيرة التي وضعت أمامه، وجعل نهاية تجربته العسيرة فوز لطه حسين ونصر للإسلام؛ إذ توفاه الله يوم عيد الفطر المبارك.

من المؤسف أن يتشدق أنصاف المثقفين، وأنصاف المتدينين على حد سواء بأقوال الدكتور طه وأحدٌ منهم لا يعرف شيئًا عن نهاية رحلته، رحم الله الشيخ الدكتور طه حسين، الذي هو مثالٌ حق للمتدين الحقيقي والمثقف الحقيقي، صاحب العقل الناضج، مَن عاد إلى الحق ولم يستكبر، فكانت عودته نعم النصر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.