شعار قسم مدونات

المعلم في الوطن العربي.. هل يبقى من إرثه شيء؟

blogs - معلم

منذ أكثر من عشرة أعوام وربما أكثر بلغني وفاة أحد أساتذتي من الذين كانوا قد درسوني في المرحلةِ الإعدادية في المدرسة، وقتها شعرت أن العالم توقف عن الدوران وأخذت أنتزعُ من ذاكرتي صورةً تلو والأخرى لتلك الفترة التي أكاد أجزم أنه لا أحد يمكن نسيانها لما فيها من ذكريات جميلةٍ، وربما أنها للبعض قد لا تكون كذلك، لكنها وبلا أدنى شك مرحلةً شكلت شخصية الغالبية العظمى من الطلبة وأثرت فيهم بشكلٍ كبير.

ما أثار حزني  وألمي أكثر هو والنهاية المؤلمة لمعلمي الذي ما عهدته إلا شامخاً باسقاً كسنديانةٍ ضاربةً جذورها في الأعماق مطلقةً أغصانها  وأوراقها الوارفةِ إلى السماء لتعانق السحاب، ناشرةً ظلها في كل الأرجاء لكلِ طالبِ علم وهاربٍ من ظلمة الجهل. فقبل أن يموت بتروا ساقه اليمنى وبعد ذلك بقليل أتبعوها باليسرى، هكذا وبلا سابق إنذار أصبح بلا ساقين ولاحقاً بلا يد فقد بتروا يده اليسرى، لقد أصبح أشلاءً ذلك المعطاء الذي ما عهدته إلا شعلةِ نشاط لم يدخرُ جهداً بالتعليم والتوجيه والتثقيف والنصح والإرشاد، قطعوا أوصاله قطعةً قِطعة هكذا حتى مات.

صاحب العلم لا يموت وصاحب الفكر أبداً لن يموت، يموت جسده، لكن روحه تبقى حيةً فينا أبداً ما بقينا، وفِكره يبقى نابضاً في قلوبنا أبداً ما حيينا، نصف الكون هو، فكيف للكون أن يموت؟!

قد يكون المعلم في أوطاننا يموت في اليوم آلاف المرات قبل أن يلقى ربه راضياً مرضياً، وللأسف فإن ما يتعرض له المعلم في الوطن العربي من تهميشٍ وحملاتِ تجيشٍ ممنهجةٍ مقصودة، ما هو إلا بداية النهاية لكل من يتآمر مع الصهاينة على الأمة، لأن إسقاط المعلم يعني إنتاج جيل لا يعترف بقيمٍ ولا أخلاق، وأنى لجيل لا يملك الحد الأدنى من القيم أن يبجل ويقدر غيره؟! سيخرج جيل لا يخاف من السيف ولا من العصى وسيسقط كل من يقف في وجه طموحاته، لأنه لم يربى على القيم ولا يعرف الخوف، سيجد هؤلاء المتآمرين أنفسهم في مواجهة من أنفقوا عليهم المليارات ليسلخوهم عن هويتهم ليقودهم بعد ذلك كالخراف إلى أعداء الأمة ليكونوا وجبةً سهلة، لكن هيهات هيهات!

وبالعودة إلى أستاذي الذي مات ودفن بصمت شأنه شأن الآلاف من علماء الأمة ودعاتها ومصلحتها ومثقفيها، فلوكان الميت راقصاً أو طبالاً أو لصاً لكان الأمر غيرُ ذلك تماماً! فوقتها قلتُ في نفسي: هذا اللوح بحاجةٍ إلى تنظيف من أثر الطبشور، هذه سبورةُ أستاذي تحتاجُ إلى تقبيل، يداك أستاذي تحتاجان إلى لفٍ بالحرير، بعد تقبيلهما ألفُ مرةٍ، وألفُ مرةٍ قليل. يا من أفنيت شبابك بين اللوح والطبشور، يا من أحرقت نفسك كي تبدد ظلامَ الجهل الذي كان قد استملك أجزاؤنا واستعمر أركاننا، يا بنايةً شامخةً انهارت من كثر التحضير والتفكير، لتبني فينا إنساناً عظيماً.

أتذكرُ أستاذي ذاك الطفل الطالب الصغير الذي كان يجلس بمقعده بكامل أناقته، بحضور ذهنه، بشيطنته، بمغامراته البريئة، بتسريحةِ شعره الطفوليةِ المائلة إلى اليمين، بأنامله المخضبة بالمداد كنقشِ الحناء؟ ذاك الطفل سيدي لم يكبر وظل بداخلي طفلاً ولن يكبر، وبقيت أنت كما أنت، الثابت الوحيد في ذاكرتي لم تغادرها ولن ترحل كعبير نرجسةِ، كنقشِ حناء، كوشمٍ استملك ردهات القلب وأقسم أن ينام فيها وألا يرحل. يا نصف العالم ونصفه الآخر أنت، يا سيد الحروف وأمير الكلمات العطرات، لم تزل كلماتك حاضرةً بأرواحنا وتكبر كلما مر يومٌ، ومعها نحن أيضاً نكبر كسنديانةٍ كأشجار صنوبر.
 
بردُ كانون كان قد أَكل أطرافنا واستملك أحشاؤنا ونبت فوق أظلعنا طبقاتُ بلورٍ من ثلجٍ قارصٍ أبيض، أكلنا البردُ وأكلناه، غيوم بيضاءٌ وسوداء تخرجُ من أفواهنا وكأننا بركان، أَسْقَطَّنا بردُ كانون، أجهز علينا، أردانا قتلى نحن الفتية الصغار طلبة الصف، وحدك فقط لم تسقط، وحدك الفارس الوحيد الذي لم يسقط وبقيت وحدك ممتطياً صهوةِ جوادك تبدد ظلام الأمية، تخوض حرباً ضروساً ضد جيوش الظلام وجحافل الجهل. تسقط تارةً يا قائد الفرسان وقد أنهكك التعب وأكل روحك الألم ومزق جسدك طعناتُ الأصدقاء، وقد قللوا من شأنك وجحدوا جهدك واستباحوا دمك وجردوك من سيفك وأطفئوا أنوارك وقَدَّموا كلَّ ذي قليلِ شأنٍ عليك حتى الراقصةُ والطبال، لكنك رغم الألم وعمق الجراح، سرعان ما تنهض تارةً أخرى وسيفك يقطرُ علمٌ ورمحك يسيلُ أبجديةً وخيلك نهلُ فكرٍ لا يعرف السقوط ولا يعترف بالخضوع. وقتها قالوا لي: أستاذك مات! فقلت لهم: صاحب العلم لا يموت وصاحب الفكر أبداً لن يموت، يموت جسده، لكن روحه تبقى حيةً فينا أبداً ما بقينا، وفِكره يبقى نابضاً في قلوبنا أبداً ما حيينا، نصف الكون هو، فكيف للكون أن يموت؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.