شعار قسم مدونات

ماذا يعني أن تكون مصابا بالسرطان؟!

blogs سرطان

يخوض الإنسان معتركات الحياة دون علم بما يخفيه له قضاء الله وقدره، وهذا مما يجعله في حاجة دائمة إلى ما يمنعه من الوقوع بنفسه في مستنقعات اليأس المهلكة، ولا يتم ذلك بدون وجود الدوافع التي تقوده إلى السير بعزم وثبات في رحلته الدنيوية رغم كل ما يحصل له من سوء وشر سواء بسبب شدة بلائه أو بأقوال وأفعال من يعيش معهم.

 

إن الابتلاء سنة ربانية اقتضتها حكمة الله في الدنيا باعتبارها مرتعا للمعارك الحياتية، ولأنها في حقيقتها هي دارا للامتحان والمكابدة، ومما لا شك فيه أن لكل معركة يعيشها الإنسان في حياته ظروفها وحيثياتها وغنائمها، وبطبيعة الحال لها أيضا عواقبها التي تأتينا على هيئة دروس سواء أتجرعنا طعم الخسارة في هذه المعارك أم حققنا فيها انتصارا.

 

ومن بين تلك الابتلاءات التي يمكن أن يصاب بها المرء على غفلة من أمره نجد السرطان؛ ذلك المرض الخبيث الذي يغزو جسم الإنسان دون استئذان، فلا يعلن عن نفسه بعد أول هجوم له للخلايا البشرية، بل يظل مستترا حتى لا يلتفت إليه الأنظار، ولكيلا يتم محاربته والقضاء عليه من الوهلة الأولى قبل انتشار الخلايا السرطانية على نطاق واسع، وكما هو معلوم فالسرطان يختار ضحاياه دون اكتراث للعواقب والأضرار.

 

كون الإنسان مصابا بالسرطان لا يعني أن سعادته مستلبة بالرغم من أنه إنسان أضنته علته ومزقته آلامه الجسمية وأرهقته إلى جانب كثرة اضطراباته الشديدة في حالته المزاجية

وبعيدا عن كون السرطان من الأمراض الفتاكة واعتباره من الأقدار الإلهية فهو من بين المعارك الدنيوية التي قد تباغت المرء في حياته، ورغم أنه ليس من المعارك الدموية إلا أن في خضمه يحدث صراع شديد بين التفاؤل والتشاؤم، وبين قوة الإيمان وضعفه، وبين غير ذلك من الأمور المتضادة، لهذا فالسرطان يستدعي التوفر على مجموعة من الأسلحة الثقيلة لمواجهته، والإصابة به يعني الكثير من الأمور والأشياء التي قد تكون جلية أو خفية، لهذا سيتم تناولها والحديث عنها نظرا لأهميتها البالغة جدا.

 

يحصل تغيير كبير في حياة المصاب بالسرطان، ويرجع ذلك إلى ما يمسه من تحولات متعددة الأبعاد، وهذا ما يجعله بالذات يدرك بأن كل شيء في الحياة الدنيوية محدود، ومهما ملك فيها الفرد من نِعم ومتع فلن يستطيع الحصول على جميع ما يبتغيه ويتمناه، إذ لا يمكن تحقيق كل طموحات النفس ومشتهياتها وملذاتها. يعي المبتلى بالسرطان بأن مرضه لا يعني زوال ابتسامته، رغم شحوبة وجهه وتغير ملامحه، وذهاب وسامته، وإن لم يكن هناك أي باعث من بواعث الفرح والسرور على الإطلاق، فالابتسامة وإن لم تكن سببا كافيا للشفاء إلا أنها تخفف من وقع المرض الخبيث على نفسية المريض بذلك الداء.

 

كون الإنسان مصابا بالسرطان لا يعني أن سعادته مستلبة بالرغم من أنه إنسان أضنته علته ومزقته آلامه الجسمية وأرهقته إلى جانب كثرة اضطراباته الشديدة في حالته المزاجية، ورغم ذلك فالسعادة لها منبع ذاتي لا ينضب، خصوصا عندما يكون القلب معلقا بالله وحده، فلا يمكن أن يسرقها شيء دون إرادة صاحبها الذي يشعر بها.

 

ولمجرد ما أن يصبح المرء مصابا بالسرطان يدرك مباشرة حقيقة مهمة انطلاقا من الهجوم الذي يتعرض له جسمه من الخلايا التي تنتمي إليه، ومع كونها من مِلكه الخاص إلا أنها تتجرأ على الانقلاب عليه ومعاداته، ومن هنا يصل الإنسان إلى قناعة مفادها أنه لا أمان ولا ثقة ولو في الأشياء التي في ملك الفرد، فما بالك بالأمور الأخرى اللامنتمية إليه والبعيدة منه، وهذا مما يجعل المبتلى يعلم الصورة الحقيقة لمن يتشفون فيه ويظلمونه عن قصد أو بدونه، ويكتشف معدن الذين تخلوا عنه في محنته وأساءُوا الظن به أو عاملوه بطريقة غير أخلاقية.

 

ولا ريب في أن المصاب بالسرطان يدري جيدا بأن الأدوية الطبية ما هي إلا وسيلة من الوسائل التي يمكن أن تساعده على الشفاء من هذا السقم العنيد؛ بدليل أن بعض المرضى لا ينفع فيهم الدواء الذي نفع في غيرهم، فالشفاء قبل كل شيء هو رحمة ربانية، ولا ينال بدون وجود الصبر الذي يفرز بكثرة حينما يشعر المبتلى بامتلاء قلبه بالرضا بما قدره الله، ولا يتم تصديق ذلك الشعور إلا بتجسيده كسلوك ممارس.

 

ولولا الابتلاء لما عرف المتنعم قدر نعمة الله عليه، ولولا المرض لجهل الناس حقيقة نعمة العافية وقدر الصحة والسلامة، ومن هنا فالمريض بالسرطان رغم كونه مشبع بالألم والأوجاع إلا أنه يدرك أمورا كثيرة لا يدركها غيره، فماهية الدنيا يعلم بها المصاب فيها أكثر من الصحيح المعافى. ومن يخشى الموت نتيجة لإصابته بالسرطان لن يذوق طعم الحياة، والمقاتل المغوار هو الذي يضع بحسبانه في كل مرة يخوض فيها معركة حياتية أنه أقرب من النهايات التي تؤدي إلى الموت، لكن لا يعني ذلك استسلامه لأمر الواقع، بل الأمر يدخل في حسن التخطيط وتوقع سيناريوهات معينة تدفع الإنسان إلى بناء أمل جديد ومواصلة المشوار بثبات.

 

المصاب بالسرطان بمثابة الجندي الذي يحارب في ساحة القتال، فهو في مواجهة شرسة مع مرضه الذي يعتبره عدوا لدودا له، لذا فهو لا يملك سوى خيار واحد لكي ينقذ نفسه ويكسب متسعا حياتيا أكبر
المصاب بالسرطان بمثابة الجندي الذي يحارب في ساحة القتال، فهو في مواجهة شرسة مع مرضه الذي يعتبره عدوا لدودا له، لذا فهو لا يملك سوى خيار واحد لكي ينقذ نفسه ويكسب متسعا حياتيا أكبر
 
والسرطان رغم ما يحمله من قوة هدامة إلا أنه غير مرعب للنفوس القوية التي تثق في مولاها، لكن الأمر المرعب في أن يشعر المصاب به بقرب نهايته فينهزم ويرفع الراية البيضاء، بل المفروض منه أن يتعامل مع السرطان باعتباره من الأمراض التي يمكن علاجها والسيطرة عليها، فكل مصاب إلا ويمتلك قوة ذاتية وعزيمة صلبة لمواجهة أي شيء يمكن أن يعترضه في رحلته الدنيوية.
 

الإنسان في الدنيا مصاب ومعرض للبلايا والمصائب التي لا مخلص له منها إلا الواحد الديان، ولا يعاب المرء في هذا كله، لكن العيب في أن تجد من يفرح بما أصاب أخاه الإنسان من سوء وما حل به من محنة فيظهر فرحه وسخريته ونكايته بغيره الذي اشتد عليه ألمه وعظمت مصيبته، كما أن المريض بالسرطان لا يغتر بكثرة الحب الذي يتهاطل عليه لأنه يشعر بتخمة أغلبية تلك المشاعر بالشفقة.

 

ولا أبالغ إن قلت أن المصاب بالسرطان بمثابة الجندي الذي يحارب في ساحة القتال، فهو في مواجهة شرسة مع مرضه الذي يعتبره عدوا لدودا له، لذا فهو لا يملك سوى خيار واحد لكي ينقذ نفسه ويكسب متسعا حياتيا أكبر، ومن حق المبتلى بهذا المرض الفتاك أن يتألم لشدة ما يعاني منه، ولكن ليس من حقه أن يستسلم، فلا حياة من دون إرادة ولا أمل في الشفاء من دون تحمل ومقاومة.

 

وأخيرا وليس آخرا كان ضروريا في معالجة هذا الموضوع العمل على طرح أفكار تساهم في تغيير ما تكرس في عقلية الإنسان المعاصر من مغالطات كثيرة وتصورات غير صحيحة عن المبتلى بالسرطان والتي لا تمت إلى الحقيقة بصلة، وما كتبت هذه السطور إلا لأني متيقن في أنها ستكون كفيلة بمد الكثيرين بمجموعة من الدروس المستفادة من الإصابة بالسرطان، كما أنها ستمنح البعض قوة دافعة لكي لا يفقدوا البوصلة الإيمانية وإن اشتد السرطان بهم وكثر عليهم الأذى الناجم عن الابتلاء به، فالعجز والضعف الذي يكون بسبب تدهور الحالة الجسمانية ليس داعيا كافيا ليورث القنوط واليأس من رحمة الله، لذا على الإنسان ألا يخرج من عقله فكرة أن الانتصار في معركة واحدة يمكن أن يجعله قادرا على معرفة كيف يربح الحرب كلها مهما بلغت شدة وعورتها، لأن الفوز فيها لا يناله إلا الأقوى إيمانا بقدراته وإمكانياته الذاتية، وبطبيعة الحال يمكن لهذا الربح أن يصبح عظيما حين يكون ممزوجا بالإيمان الرباني.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.