شعار قسم مدونات

المواطن الرمادي حبيب الاستبداد الدائم!

blogs مجتمع

قديماً قالها المناضل الأمريكي الحقوقي المدني مارتن لوثر كينغ: "أسوأ مكان في الجحيم محجوز لهؤلاء الذين يبقون على الحياد في أوقات المعارك الأخلاقية العظيمة". عشقي للعمل كمراسل ميداني، أستطلع أراء الشارع وأسمع صوت العامة، كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وقفيرهم، المتعلم منهم وغير المتعلم، المثقفين المتشائمين أو أصحاب القبعات السوداء، وأولئك أصحاب القبعات الزرقاء – بحسب تصنيفات الاستراتيجيين- الموصوفون بالحكمة والمقدرة على التوجيه، عشق متجدد ومتمدد مع تمدد الخيبة والصدمة لواقع أمتي المسكينة. فعلاقتي بالكاميرا والميكرفون وحركة الناس، تنمو داخلي مع كل حدث عاجل، وكل ثانية من عمري تمضي أعشق كوني مراسلاً لبرنامج يومي يهتم بالناس والحياة، يهتم بالإنسان مجرداً من أي صبغة غير كونه إنساناً وله الحق في أن يدلي برأيه حتى لو انتقدني ومحطتي التي أعمل بها.

بات من المعتاد في عمل المراسل الميداني أن يوصم بالتبعية للنظام أو بالعمالة والتبعية لدول معادية لبلده، ولعل هذا جزء من ضريبة المهنة، أن تسمع ما يرضيك وما لا يرضيك، وأنت باسم حتى الضرس الأخير. لكن قربي من نبض الشارع، أمكنني من التعرف إلى نوع من الشخصيات التي أحوجتني للبحث والتنقيب عنها وعن كنهها في كتب النفسانيين التي لا أومن بكثير منها، ألجأتني لسؤال (سيجموند فرويد) و(جان بياجه) إلى (غوردن ويلار البور) الأمريكي الذي اهتم بدراسة الشخصية البشرية وأنماطها. كل هؤلاء لم يشفوا نار حيرتي لفهم تلك الشخصية التي قابلتني في أثناء استطلاعات الرأي. حتى عثرت على مقولة الثائر مارتن كينغ التي لطالما قرأتها دون اكتراث. لكنني اليوم أرى وأشعر بمدى الغبن والضيق واختلاط المرارة بالخذلان في نفس لوثر وهو يصرح بأن أسوأ مكان في الجحيم لهؤلاء الذين يبقون على الحياد. أسميتها بالشخصية الرمادية، فهي شخصية ليست مع الحق لكنها ليست ضد الباطل، وهي ليست محبة للجمال لكنها أيضا لا تكره القبح، هي ليست مع المظلوم لكنها أيضا لا تجرؤ على الوقوف ضد ظالمه. وهي قريبة الشبه من الحيادية ولكنها ليست هي نفسها، هذه شخصية رمادية تقبل المعنى وضده، بحسب الحال وتغير الرياح، وأحياناً لا تقبل إلا الصمت والتبلد.

في مقال للكاتبة ميسون النحلاوي بموقع الألوكة الإلكتروني تحدثت عن أسطورة الحيادية، وهي قريبة من الرمادية لكن الأخيرة واقعية فاعلة بالسلب في الراهن اليومي: (إذا عمَّمت سؤالَ "ما هي الحيادية؟" على شريحة من الأفراد، تصِل إلى إجماع بأنَّها "اتِّخاذ موقف وسط من قضيَّةٍ ما بين طرفين مُتنازِعين، أو رأيين مُتضارِبين"، وبالتعبير الدارِج: "أمسك العصا من المُنتصِف".) للمُفارقة، معنى الحياد باللغة العربية لا علاقة له بالمفهوم السابق، فقد جاء في لسان العرب "مادة: حَيَدَ": (حاد عن الشيء: يَحيد حَيدًا وحَيَدانًا ومحيدًا وحيدودة: مال عنه وعدَل)، وقد اشتقَّت كلمة (مُحايد) من كلمة (حادَ)، وهي على نفس المعنى، ولكن درجت هذه الكلمة في وصْف من يُخفي انتماءه أو ميوله أو رأيه بحُجَّة إرضاء الناس). لكن شخصيتنا الرمادية هذه ليست حتى على الحياد لا لغةً ولا اصطلاحاً، ما يجعلني أعود أصفها بالرمادية، فمن خصائص اللون الرمادي كما جاء في موقع موضوع: (يعتبر اللون الرمادي من منظور علم النفس، اللون الرمادي لوناً محايداً كونه لا أبيضَ ولا أسود، بل إنه ناتج عن دمجهما معاً، ويرمز الرمادي الغامق المائل إلى الأسود إلى الغموض والمأساة، بينما يرمز الرمادي الفاتح والمائل إلى الأبيض إلى الحيوية والنور، وكونه ساكناً وخالياً من المشاعر على حد سواء، ويعتبر اللون الرمادي متيناً ومستقراً، يخلق إحساساً بالهدوء ورباطة الجأش، ويعفي من فوضى العالم، كما يمكنه أن يعبر عن الكبت والهدوء والتحفظ، حيث إنه لا يحفز النشاط أو التجديد والإثارة) كما أنه لون سالب يخفض الشعور العام بمعطيات الواقع المتحرك وأهمية التفاعل معه (يمكنه تخفيض مستوى الطاقة، ولا يستوعب أي أمور إيجابية وجديدة قادمة).

يطل المواطن الرمادي برأسه الان بقوة على مواقع التواصل الاجتماعي، فهو يسبح بحمد الله ونوره، ويردد أذكار الصباح والمساء، لكنه لا يجرؤ على لعن الظلام فضلاً عن الحديث عن معتقلي الرأي ببلده أو ببلد مجاور.

فالرمادي ضد أي تغير وضد أي مبادرة، وضد كل ما يعكر لحظات سكونه وبرودته حتى لو كان قابعاً في غياهب الاستبداد فهو لن يستبدل مستبديه بآخرين خوفاً من خرقه لرماديته القاتمة. وهو كذلك لون من حيث معنى ودلالة الألوان، يعتبر الرمادي مملاً ورتيباً ومحزناً من ناحية، وأنيقاً ورسمياً من الناحية الأخرى، ولكنه لا يعتبر براقاً أبداً. فالشخصية الرمادية تقبل أي شيء عدا أن يكون لها حضورها ولو بالكلمة ولو بمجرد إبداء رأي مفهوم معقول. هؤلاء الرماديون يتواجدون بكثرة على منصات التواصل الاجتماعي، لكن الملاحظ أنهم يخرقون قواعد اللون الرمادي ويميلون ناحية الاستبداد الراهن في الوطن العربي والإسلامي، ولو سألت أحدهم وحاورته لنكص لمربع رماديته وأنكر تبعيته لأي جهة أو حزب، لكنه يعود آخر الليل يهتف بحياة جلاديه كما قلنا، حفاظاً على مكتسباته كرمادي باهت يعظم العزلة والألم النبيل الصامت، ويكره كل دعاوى التغيير والتجديد وينظر إليها بعين رمادية مشوشة ومٌجرِمة للتغيير.

في أزمة الخبز الأخيرة التي ألمت بالسودان، قابلت الناقدين بشدة لسياسات النظام الاقتصادية التي أدت لظهور صفوف الخبز والجازولين بحسبهم، وقد كانوا متحمسين جداً أمام الكاميرا وبعدها، قابلت واستطلعت المؤيدين لسياسات النظام وكانوا أيضاً غاية الحماس في تحميل المواطن السبب في الأزمة وإعفاء النظام من أي تبعات. وهذا هو العمل والحياد المهني المفروض على ضمير المراسل والإعلامي بعامة، فعرضنا الرأيين وشاورنا المختصين والخبراء والرأي العام وأبرأنا ضمائرنا أمام الله وأمام ضمائرنا كآدميين لنا الحق في الخبز والماء والنار. لكن حيرتي لم تنته وأنا أطالع في المونتاج أولئك الرماديين، الذين اجتهدت وكدت أنتف آخر شعرة بوجهي محاولاً فهم وجهة نظرهم حيال الأزمة، انجلت الأزمة لكن خلفت وراءها أزمة اجتماعية نفسية عميقة، هي مواطن لا يعرف كيف يقول رأيه، ومواطن لا يعرف كيف تقوده السياسة الاقتصادية للدولة الحديثة، ومواطن لا يعرف أن يكون مع أو ضد أو محايد محترم. خلفت نكسة نفسية تتمثل في مواطن على استعداد لأن يبيع نفسه للشيطان في سبيل ألا يدلي برأي واضح أو غير واضح، وهذه أزمة ألا يعرف المرء أنه في أزمة.

يقول فلاديمير لينين "المواطن الذي لا يتدخل في السياسة تتدخل السياسة فيه"، وهذا لعمري هو الواقع المحض العاري من كل زيف، فالسياسة تتدخل في كل مناحي حياتنا اليومية بدءاً من أسعار حليب الأطفال الذي تتنافس شركات رأس المال الضخمة في شراءه من المزارع وإعادة إنتاجه وبيعه بقيمة مضافة، وفقاً لسياسات اقتصادية وتفاهمات مع النظام ممثلاً في مؤسساته الاقتصادية. تتدخل السياسة حتى في مواعيد نومك كموظف بائس تأتي بعد دوام منهك مجهد لا تلقي بالاً إلا لموضع رأسك، تتدخل في كل تفاصيل حياتك بشكل صارم ولئيم ولا تترك لك ولا عشر دقائق دون أن توجهك القوانين والنظم واللوائح حتى في الحدائق العامة. يطل المواطن الرمادي برأسه الان بقوة على مواقع التواصل الاجتماعي، فهو يسبح بحمد الله ونوره، ويردد أذكار الصباح والمساء، لكنه لا يجرؤ على لعن الظلام فضلاً عن الحديث عن معتقلي الرأي ببلده أو ببلد مجاور. قد يكون إعلامي حتى، يعمل في مؤسسة إعلامية مرموقة ترد إليه التقارير بصورة راتبة، وهذا هو الأخطر في فئة الرماديين (النافذين)، يُعمل قلمه في التقارير حذفاً وتعديلاً ليس بوازع الضمير والمهنية بقدر ما هو رغبة في الرمادية والسكون وعدم المقاطعة وخشية البلبلة، وكأن العالم من حوله جنة عدن لا كوكب بائس على شفى هلكة تحت ضغطة أزرار لرؤساء يمتلكون آلة دمار كلعب الأطفال. لو كان الرمادي يتكلم لقال إنه والعدم سواء، إن لم يكن مرحلة أعقد من اللامعنى والعدمية الحديثة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.