شعار قسم مدونات

ظلم العباقرة.. قصص ولدت منسية!

blogs ابو حيان التوحيدي

يقولون مَن جد وجد، ومَن زرع حصد، ولكنْ ماذا لو كانت التّربةُ غيرَ صالحةٍ لِما وُضِعَ فِيها؟ حِينها يغدُو التّعبُ هباءً منثوراً، وتذهبُ الآمالُ أدراجَ الرّياح، وتُصبِحُ الأحلام مُجرّدَ أوهام. على مَرّ الزّمان تعاقبتْ أجيالٌ مِن العباقِرة فِي شتّى الحضاراتِ والأُمم، والأمّةُ الإسْلاميّة لمْ تكُنْ بِدعاً مِنها، بل كانتْ صاحِبةَ الحظّ الأوفَر؛ فقد بزغَ فِي سماءها نُجومٌ كثيرةٌ اهتدى بِها السّائِرون فِي سُبُلِ المعرِفة وصُنوفِ العُلوم، وألوانِ الآدابِ والفُنون، فهل نالَ أولئكَ ما كانوا يستحِقّون؟

لو أردنا أنْ نُحصِي أسْماءَ أُولئكَ العباقِرةِ الذين أشاحتْ عنهُم الحياةُ بوجهِها، بل انشمرتْ بِكُلّها، لسودنا صفحاتٍ كثيرة، تملأُها المَرارة، ويَقطُرُ مِنها الأسَى، نكتُبُها بمِداد الحِبر تارةً، وبِأَمِدَّةِ الدّمع مراتٍ أُخَر، أولئكَ الذينَ أبت الحياةُ أنْ تُنصِفَهُم، أبت أنْ تُنزِلَهُم منازِلَهُم، على الرّغمِ مِن كُنوزٍ اكتشفُوها، وبدائِعَ ابتكروها، وجُهودٍ قدّمُوها. أحدُهُما عاشَ فِي القرنِ العاشِر المِيلادِيّ، والآخرُ فِي القرنِ العِشرين، ألفُ سنةٍ مِن عُمر الزّمان لمْ تكُن كفيلةً بأنْ تتغيّرَ الأحوال، ولمْ تكُنْ كافيةً لِكَي لا يُلاقِيا مصيراً مُشابِهاً.

عليّ بن مُحمّد بن العبّاس التّوحِيديّ البغدادِيّ، الذي اشتُهِرَ بكُنيتِهِ "أبُو حيّان"، وبنسبتِهِ إلى التّوحيد التي اختلفَ النّاسُ فِي سببها، مُثقّفٌ موسُوعِيّ، أديبٌ أريبٌ ألمعِيّ، فيلسوفٌ ومُتصوّف، لُقّبَ بفيلسوف الأُدباء وأديبِ الفلاسِفة، كانَ مِن أذكياء البشر، ومِن أعظمِ كُتّاب العربيّة على مَرّ الدّهر، إنْ لمْ يكُنْ أعظمَهُم على الإطلاق. لمْ يَلقَ أبُو حيّان فِي حياتِهِ سِوى الفقر والإملاق، والتّعبِ والإرهاق، حيثُ امتهنَ حِرفة الوِراقة فلمْ تجُد عليه إلّا بخسيس العيش، وفُتات الخُبز، وصُبابةٍ كصُبابةِ الإناءِ يتصابُّها الرّجل، حتّى وصل بِه الحال إلى أنْ يُذِلّ نفسَهُ ويطلُبَ مِن مُتنفِذي عصرِه أنْ يصِلُوه بالهِبات، ويمنحوه الأُعطيات، فلم يَجِدْ مِنهُم إلّا الصّدّ والحِرمان، فنقِمَ عليهِم، وأعملَ فِيهِم قلمَه، وسخِطَ على عصرِه الذي لمْ يُنصِفْه، واسودّ مِزاجُه، وأظلمت الحياةُ فِي مِرآة عينيه؛ فقد أعطى الحياةَ كُلَّ ما يملك، ولمْ تزِدهُ إلّا شُحّ موارِد، وقِلّةَ وارِد.

كان أبُو حيّان يعلمُ مِن نفسِه أنّه ما كتبَ الكُتبَ إلّا ليظفَرَ بالمَثوبةِ عِندَ النّاس، وينالَ مِنهم الحفاوةَ والتّكريم، والعطاء والتّعظيم، فحُرِمَ ذلك كُلّه، وحِيل بينَهُ وبينَ ما يشتهِي

وفِي ليلةٍ مِن اللّيالِي، وبعدَ أنْ جاوزَ التوحِيديّ التّسعينَ مِن عُمُرِه، أزمعَ أمرَهُ على الإنتحار، ولكنْ ليسَ ذاك الذي ينتهِي بانتهاء النّبض، وتوقّفِ الأنفاسِ عن ذهابِها وإيابِها، بل انتحارٌ هو أعظمُ مِن ذلك بكثير، فقد قرّرَ أنْ يُضيء ليلتَهُ تِلك، أرادَ أنْ ينعمَ بِليلةٍ بيضاءَ فِي آخِر حياتِه الطّويلة، والتي زادَهَا شَظفُ العيشِ طُولاً. جمّعَ كُتبَ سِنينِه، وصفحاتِ أيّامِه، جنباً إلى جنب، وصفاً صفاً، حتّى إذا اجتمعتْ كُلُّها أخذَ يُقلّبُ ناظِرَهُ فِيها، قرنٌ خَلا عِقداً مِن الزّمان أمامَه، فكمْ مِن ليلةٍ مِن سَنةٍ غالبَ فِيها السِّنة، وكمْ مِن نهارٍ طويلٍ أعادَ جُزءاً لِيعلمَه، وكم وكم.. فِي الصّدرِ مِن ألمْ، ألقى بالشّرارةِ الحمراءِ مِن يَدِه، فكانتْ بدايةَ النّار، ونهايةَ المِشوار.

عشراتُ الكُتب تشتعِلُ أمامَه، كُتبٌ حَوَتْ مِن العُلومِ نفائِسَها، ومِن الآداب سِرّها وجَهرها، عُصارةُ عُمرٍ مديدٍ مِن الكِتابةِ والبحثِ والدّرس تتطايرُ دُخاناً فِي جوّ السّماء، أيُّ قلبٍ كانَ يحمِلُ حِينها، أيُّ إرادةٍ بين جنباتِه حمَلتْهُ على هذا الفِعل؟! هل كانتْ إرادةَ بدايةٍ جديدة؟ رُبّما. هل كانتْ إرادة بدايةٍ تجُبُّ ما قبلها؟ رُبّما. هل كانتْ مخاضَ وِلادةِ فجرٍ ناصِعِ البياض مِن رحمِ ليلٍ حالِك السّواد؟ رُبّما رُبّما..

لقد استخارَ اللهَ فِي ذلك اللّيالِي ذوات العدد؛ فأُوحيَ إليه أن اتخِذْ مِن كُتبِكَ قُرباناً تأكُلُهُ النّار، ولقد كان أبُو حيّان يعلمُ مِن نفسِه أنّه ما كتبَ الكُتبَ إلّا ليظفَرَ بالمَثوبةِ عِندَ النّاس، وينالَ مِنهم الحفاوةَ والتّكريم، والعطاء والتّعظيم، فحُرِمَ ذلك كُلّه، وحِيل بينَهُ وبينَ ما يشتهِي، وغابَ عنهُ ما كان يُؤمِّل، فما عرفَ النّاسُ لهُ حقّاً، ولا راعوا لهُ فضلاً، فغسلَ يديه مِن الزّمانِ وأهلِه، وتابَ وآبَ إلى رَبّه، عساهُ يجدُ فِي الأُنسِ بِهِ سُكونَ النّفس، واطمئنان الفُؤاد، بعد سِنينٍ عِجافٍ لازمَتْهُ فِيها الحِيرةُ والاضطراب، والعنتُ واليأس، ولعلّه يجِدُ عِندَهُ حُسْنَ المُنقلبِ بعدَ أنْ تنقضِي تِلكَ السّنينُ القلائلُ التي تبقّتْ مِن عُمرِه.

ما أشبهَ اليومَ بالأمس، فهَا هُوَ الصّبيّ الذّكيّ زكي مُبارك الذي أتمّ حِفظَ القرآن فِي رِيف سنتريس إحدى قُرى محافظةِ المَنُوفيّة المِصريّة قد اشتدَّ عُودُه، وبلغَ الثّامنةَ عشرَ مِن عُمره، ورامَ الذّهابَ إلى الأزهَر لِيُكمِلَ رِحلَتَهُ العِلميّة، وتمضِي بِهِ الأيّام وتنطوي الأعوام، ويَدخُلُ مَيدانَ الخَطابة، فإذا بِهِ فارِسَ المَيدان وسيّدَ الحَلبة، يَخطُبُ باللّغةِ العربيّة فكأنّما بُعِثَ سَحبانُ وائِلَ مِن رُقادِه، ويَخطُبُ باللّغةِ الفرنسيّة حتّى يقولَ القائِل لا يعرفُ غيرها، كيفَ لا وقد أحسنها خيراً مِن أهلِها!

ونَزَلَ ساحةَ الأدبِ والشّعر، وقد ازدحمتْ بأسْماءٍ كبيرةٍ رنّانة، قَلَّ أنْ يَجُودَ الزّمانُ بأشباهِها، فبَذَّ قوماً وصارعَ آخرين حتّى لقبوهُ بـ "المُلاكِم الأدبيّ"، فكان يَصولُ ويَجولُ كالأسدِ الهصُورِ يبحثُ عن فريسةٍ هُنا أو هُناك، فتحركت السّاحةُ الأدبيّة، وشُغِلَ النّاسُ بِهذا الأديبِ الزّكيِّ المُباركِ حِقبةً مِن الزّمن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.