شعار قسم مدونات

قمة طهران الثلاثية.. هل أصبحت أميركا خارج اللعبة السورية؟

blogs قمة طهران

نسعى في هذه الدراسة، إلى طرح العديد من الأبعاد التي أثارتها القمة الثلاثية في طهران، والتي تعكس العديد من الدلالات والنتائج التي تتجاوز الأهداف المعلنة، إلى أهداف خفية، ترسم أفقا مستقبلية لمنطقة الشرق الأوسط في ظل تراجع حلف آخر ما زال مندهشا من تطور الأوضاع في سوريا خارج إرادته واستراتيجيته وخططه، إننا سننظر إلى القمة، من زاوية مختلفة عن الوصف الذي يقوم به الإعلامي، رغم أهميته، وسنحاول تفسير الأهداف المعلنة والمضمرة للقمة.

إن الوقائع والأحداث السياسية التي يعرفها المسرح الدولي، مترابطة ومتكاملة وذات سيرورة تاريخية، ولا يمكن فهمها إلا عبر ربطها بتغيُّرات النظام العالمي، والقواعد والاتفاقيات التي تم إبرامها بين مختلف الفاعلين الدولتين وغير الدولتين، بما فيها المنظمات الدولية والشركات المتعددة الجنسيات وجماعات المصالح، التي اخترقت سيادة الدول، وأصبحت تساهم في سياستها الخارجية، وتضع الشروط والعقبات أمام رؤساء الدول، مما جعل النظريات المفسرة للعلاقات الدولية، عاجزة عن مواكبة هذا المتغيرات، مكتفية، بالإشارة إلى هذه النقطة دون اختراق وتشخيص التفاعلات السريعة التي تحدث في المسرح الدولي.

وسننطلق في هذه الدراسة، من الدولة التي تعد عنصرا فاعلا في النظام الدولي رغم اختراق سيادتها، وينبغي الإشارة إلى أن النظام العالمي قد صاغت الولايات المتحدة الأمريكية أسسه وقوانينه، بعد استثمارها في الفوضى التي خلفتها الحرب العالمية الثانية، وتأسيس قواعد ومنظمات عالمية، تخدم مصلحتها وتضمن لها الهيمنة على العالم بشكل ناعم وقانوني وشرعي في نظر باقي دول العالم، لكن، حدثت العديد من التطورات التي تؤشر على نهاية هذه الهيمنة الأحادية، بفعل عودة الروس القوية إلى المسرح الدولي، وصعود الصين، وتراجع الثقة من طرف شركاء الولايات المتحدة الأمريكية في سياساتها واستراتيجيتها.

 

وتعد منطقة الشرق الأوسط، أهم الملاعب التي تختبر فيها القوة، والهيمنة، ومجالا للتنافس والصراع، واختبار الأسلحة وقوة المنافس، ومن هنا يشكل النزاع السوري، صورة مصغرة تكشف لنا أهم اللاعبين في الساحة الدولية. وهكذا، اشتعل النزاع السوري، في سياق تغير موازين القوى، وظهور الحلف الجديد، (روسيا، إيران،، تركيا) الذي لا يقل قوة عن الحلف الآخر (الولايات المتحدة الأمريكية، فرنسا، بريطانيا)، فالقوة اليوم، لم تعد محصورة بالتفوق العسكري والاقتصادي فقط، بل توجد عوامل لا تقل أهمية، مثل (العامل الاستخباراتي، والعامل الجغرافي، والثقافي..).

 

أبانت قمة طهران عن تمسك الجانب الروسي والإيراني بدعم النظام السوري العسكري الذي قتل آلاف المدنيين وحول سوريا إلى مقبرة جماعية بدعوى محاربة الإرهاب

لقد أثبتت روسيا دهائها وقوة مخابراتها، بعد التدخل في الانتخابات الأمريكية، وتوجيه الرأي العام الأمريكي لاختيار الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، بدل هيلاري كلينتون، بسبب انزعاج الروس من أسلوب الحزب الديمقراطي. فقد سبق أن صرح الروسي قنسطنطين مالوفيف konstantin malofeev رئيس مجموعة تسارغراد، ومؤسس صندوق الاستثمار الدولي، أثناء المقارنة بين مرشحي الرئاسة الأمريكية خلال الانتخابات السابقة، التي فاز خلالها ترامب، حيث قال: (لدينا الخيار بين مجنونة وأقصد كلينتون، ومشاغب وأقصد ترامب، وأمام هذان الخياران نفضل شخصا مشاغبا، فمع مشاغب تبقى لنا فرصة، بينما المجنون لن يتيح لك أي الفرصة).

وقد أثبتت مواقف الرئيس الأمريكي دقة توقعات المخابرات الروسية، فالسياسة الخارجية الأمريكية أصبحت مصدر إزعاج للعديد من الدول، ومن بينها الدول الأوروبية نفسها، التي أصبحت تنحوا نحو الاستقلالية وعدم التبعية العمياء للسياسة الأمريكية، فقد تم رفض قرار ترامب القاضي بتجديد العقوبات الاقتصادية على إيران بسبب ملفها النووي، إضافة إلى رفض نقل سفارات الدول الأوروبية إلى القدس، وعارضت ألمانيا العقوبات الاقتصادية الأخيرة على تركيا.

وفي الجانب الثقافي، أوضحت كنيث بلودنغ أهمية الانطباعات الذهنية ودورها في العلاقات الدولية، فصانعو القرار الدوليون لديهم تصورات عن العالم وعن الآخرين، وعن الخصم قد تبدو حاسمة في تحديد خيارهم الاستراتيجي وترتبط بثقافتهم الخاصة إلى حد كبير، وكما صرح برتراند بادي، فقد لعب تشبيه الغرب، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، بالشيطان دورا أساسيا في وضع الخطوط الرئيسية لدبلوماسية الخوميني. ويجب أن نشير إلى ارتباط تركيا ثقافيا بالشرق الأوسط، الذي كان جزءا من الإمبراطورية العثمانية، وخاصة منطقة إدلب، التي تتضمن العديد من الآثار التاريخية التي بناها الأتراك في السابق، مما يجعل العامل الثقافي مؤثرا على قرارات تركيا، وأحد أهم محدداته ومحفزاته.

 

بينما لا يوجد شك، في دور العامل الجغرافي في العلاقات الدولية، فكما قال "necholas lezard" في كتابه "سجناء الجغرافيا" فالقادة السياسيون مقيدون بالجغرافيا وتتحكم فيهم الجبال والأنهار والبحار. فقرب سوريا من أراضي تركيا وإيران ونسبيا روسيا، يعتبر من أهم الموارد التي تزيد من مقياس القوة لديهم مقارنة مع الجانب (الأمريكي والفرنسي والبريطاني) الذي يمتلك فقط بعض القواعد المنتشرة في القرب من المنطقة. وقد طرحت هذه القمة التي انطلقت يوم الجمعة العديد من الدلالات رغم فشلها في تحقيق أهدافها، بسبب إصرار روسيا على توجيه ضربات جوية على محافظة شمال سوريا، ودعم إيران للنظام السوري، في ظل محاولة تركيا منع استهداف المدنيين بدعوى وجود مجموعات إرهابية في المنطقة. ورغم فشل هذه القمة، فقد حملت العديد من الأبعاد:

يتعلق البعد الأول الذي طرحته القمة، بظهور حلف استراتيجي جمع بين ثلاث بلدان ترفض الهيمنة الأمريكية-الغربية على العالم، وتعتبر منطقة الشرق الأوسط مجالا وحقلا يدخل في صميم الأمن القومي والمصير المشترك لتلك الدول. فرغم تعدد الرؤى والتصورات والحلول التي تحملها هذه الدول للصراع في المنطقة، استطاعت تجاور الاختلافات والجلوس على طاولة واحدة لتقرير مصير المنطقة، بدل ترك المجال للتدخل الأمريكي. إن معركة إدلب لا يمكن تحليلها كما بينا سابقا بمعزل عن الصراع الأمريكي-الروسي في العالم، والذي يعد صراعا تاريخيا يعكس اختلافا حادا في المصالح والرهانات والرؤى والإيديولوجيات. لقد نجحت روسيا في ردع الجانب الآخر (الولايات المتحدة وحلفائها) من خلال المناورات الضخمة التي أجريت في المنطقة، والتهديد بالرد على كل تدخل غربي في سوريا، الأمر الذي حول أنظار العالم إلى القمة الثلاثية، وجعل الغرب يقف موقف المتفرج، خوفا من مواجهة لا تبدوا في صالحهم في ظل الأزمة الأمريكية الداخلية، وانقلاب جهات إعلامية وسياسية وقضائية واسعة ضد سياسة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

طرحت قمة طهران من جهة أخرى، إشكالية خطيرة تهدد السلم العالمي، وهي استمرار الأزمة التي تعرفها منظمة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، منذ الصراع السوري الذي لم تستطع خلاله الدول خلق إجماع وبلورة حلول ترضي جميع الأطراف
طرحت قمة طهران من جهة أخرى، إشكالية خطيرة تهدد السلم العالمي، وهي استمرار الأزمة التي تعرفها منظمة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، منذ الصراع السوري الذي لم تستطع خلاله الدول خلق إجماع وبلورة حلول ترضي جميع الأطراف
 

وأبانت قمة طهران عن تمسك الجانب الروسي والإيراني بدعم النظام السوري العسكري الذي قتل آلاف المدنيين وحول سوريا إلى مقبرة جماعية بدعوى محاربة الإرهاب، وفي جانب آخر، فرغم الخلفية الدينية لسياسة إيران، لم يشفع لها هذا المحدد، في الدفاع عن الحل السلمي ومساندة الموقف التركي الذي دعا إلى عدم قصف المنطقة والاحتكام إلى الحل السلمي لتجنب زيادة نسبة النازحين، وارتفاع عدد قتلى المدنيين بل جعلت طهران من أرضها بوابة لقتل الأبرياء وتشريدهم من منازلهم ودعم النظام السوري الذي يحافظ على مصالحها وسياساتها في المنطقة. ويقترب الموقف التركي من الموقف الغربي الرافض لأي عملية عسكرية في إدلب، مما يدل على أن تركيا العضو في حلف الناتو تشكل بوابة مهمة للغرب للتفاوض مع الروس، في ظل الخلافات الغربية مع الروس التي تزايدت منذ انتهاك الروس للسيادة الأوكرانية.

وطرحت قمة طهران من جهة أخرى، إشكالية خطيرة تهدد السلم العالمي، وهي استمرار الأزمة التي تعرفها منظمة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، منذ الصراع السوري الذي لم تستطع خلاله الدول خلق إجماع وبلورة حلول ترضي جميع الأطراف، بسبب تعدد المصالح والرهانات بين الدول التي تملك الشرعية القانونية لمنع أي مبادرة دولية تحت غطاء مجلس الأمن الدولي وخاصة امتلاك الروس لحق الفيتو الذي يعرقل أي قرار دولي.

وختاما، لم يعد عالم اليوم، مثل عالم الأمس، وكما صرح برتاند بادي، فالعالم عاد إلى وضع النظام الإقطاعي، وارتبط من جديد بشكل من أشكال الفوضوية، بل حالة العودة إلى الطبيعة. بل أن الأمر الفعلي، هو أن النظام الدولي يتجه بالأحرى نحو مظاهر الانفجار أكثر مما يسير في اتجاه الصورة المثالية للمجتمع المتحضر. إن نهاية الصراع في سوريا سيحدد معالم النظام العالمي الجديد بدقة، وسينتج عنه تغيرات مهمة ستكون لها نتائج عالمية، في ظل استمرار الضعف والوهن الذي تعيشه دول المنطقة، التي لم تحسم بعد في أمورها الداخلية، ولم تستعد لهذه الموجة الفوضوية التي تحركها دوافع عنصرية، واقتصادية، لا تعترف بالمبادئ الأخلاقية ولا بقيم الحداثة، بل تسعى إلى تحقيق المكاسب والاستثمار من الفوضى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.