شعار قسم مدونات

شكرا لكل من خذلنا!

blogs خذلان

نتعرض في حياتنا لكثير من المواقف المفجعة التي تولد في ذواتنا مشاعر مؤلمة، كما نمر بلحظات مريعة جدا تكاد توصلنا لدرجة الإحباط والقنوط جراء قوة الصدمات التي تأتينا ممن يخذلوننا، لحظات يتعكر فيها العقل البشري فيصبح التفكير معتلا لعدم قدرة ذهننا على استيعاب تلك المواقف المأساوية التي نمر بها، نظرا لصعوبة فهمها في تلك اللحظات التي تحتاج إلى استحضار الحكمة قبل أي شيء آخر، فبها يتحول ذلك كله إلى مصدر للبأس الشديد والإرادة الصلبة على تجاوز الأوقات الكارثية التي تتفجر فيها كوامن القوة، واستمرار الأوجاع التي يتجرعها الإنسان ليس مسوغا حقيقيا لوأد ما هو جميل وطيب في قلوبنا وأرواحنا، فمن المشاعر القاسية من تحيينا وتجعلنا متفطنين لأشياء كانت خفية علينا، أي أن بها نصبح أكثر نضجا ووعيا في التعامل مع ما نمر به.

 

إن الخذلان بصفة عامة هو تعبير عن صدمة ما بفعل حدث أو تصرف غير متوقع، وقد يكون نتيجة ثقتنا الزائدة أو رغبتنا التي تقابل بردة فعل مضادة لم تكن بالحسبان، ويزداد حدوثه بكثرة في هذا الزمن الذي استطاعت فيه الحياة المادية المسيطرة أن تفقد البشرية العواطف السامية، لهذا صارت القلوب أكثر قسوة بتعلقها الشديد بالكسب والربح المادي، الشيء الذي جعل الغالبية العظمى يتخلون عن الحس الإنساني النبيل بغية تحقيق مآربهم ومصالحهم الشخصية الزائلة.

 

ولعل السؤال الذي يراود الكثيرين الآن: لماذا نشكر كل الذين خذلونا؟ سؤال ينبغي طرحه بهدوء ومناقشته بإيجابية فعالة وبجرأة معقلنة، لكي نصل إلى جواب شافي مقنع لا يحتاج لتقديم مزيد من الإيضاح الدقيق والشرح المفصل. لقد أتى اليوم الذي ينبغي أن نشكر فيه كل الذين خذلونا في الأمس؛ فبفضلهم أصبحنا أكثر وعيا، لأننا استوعبنا أن الحياة لا تقف عند أي شخص مهما كان، إذ لا ضمان لاستمرار أي شيء في هذه الدنيا فما بالك بالأشخاص، فحتى قلوبنا التي نمتلكها ستخذلنا في يوم من الأيام لتقف عن النبض. وإن تعالت صيحة خذلانهم في مسامعنا، إلا أنها غير قادرة على إحداث الأضرار البليغة، لا لشيء إلا لأننا قريبون ممن يجبر كسورنا بلطفه ورحمته التي تجعل الخذلان غير قابل للتمدد في دواخلنا المحصنة، وما دام ذلك قائما فلا خوف علينا من كل ما يترتب عنه من عواقب خطيرة وتبعات وخيمة.

 

شكرا لمن لم يبذلوا ولو مثقال ذرة من جهدهم في سبيل نصرتنا بالرغم من أننا أغدقناهم بعطائنا ومنحناهم أكثر مما احتجوه في ضرائهم

شكرا لمن خذلونا بعد أن منحنا لهم ثقتنا، فبصنيعهم تضاعف شعورنا بأن الله هو الأمان الوحيد بعد أن أعطونا درسا قاسيا جعلنا نحتاط كثيرا قبل أن نضع ثقتنا في البشر كيفما كانوا، شكرا لهم لأنهم لم يستمروا في تمثيلهم وبادروا في فضح حقيقة نواياهم الخبيثة ولو بعد مدة من الزمن، ورحيل من كنا نعتقد أنهم كانوا قريبين إلينا إلى الأبد أهون بكثير من أن نعيش معهم في ظل تصنعهم ونفاقهم وغياب أي مؤشر على وجود الصدق والمصداقية في تعاملهم.

 

وهنا بالذات أتذكر همس أمي المتكرر في أذناي: إياك يا صغيري أن تعوّل على البشر، ثق بربك وحده، وأعقد كل آمالك عليه، ذلك الصوت المهموس في مسامعي لا يفارقني البتة في كل محنة وموقف مؤلم، تلك الشحنة الدافعة لتخطي كل ما يمكن أن يعكر صفو النفس من الرواسب السلبية الناجمة عن مخلفات الشعور بالخذلان.  ليس للمخذولين سوى الصبر والمجازفة على تجاوز وقع ذلك الإحساس على النفس والمضي قدما ورمي بقاياه وأثاره وراء الظهر، وإن كان الجرح المحدث غائرا يحتاج إلى الكثير من الوقت لكي يلتأم في القلب، حتى نعود من جديد ونحن أكثر دقة في اختياراتنا وأكثر تحفظا في علاقاتنا.

 

لولا خذلانهم لنا لما استوعبنا أمور كثيرة في هذه الحياة، فبذلك استطعنا أن نكتشف امتلاكنا لقدرات كانت مضمرة في نفوسنا إلا أنها أصبحت بارزة بعد تجرع مرارة الخذلان من أولئك الذين كنا نظن أن الحياة معهم ستكون أفضل، لكنهم فجأة وعلى غفلة من أمرنا وجدناهم من الذين يصطفون ضدنا محاولين مباغتتنا من ورائنا بنفث سمومهم بخناجر غدرهم المسمومة، وحين ظهرت حقيقتهم اعتقدوا أننا سنكون من أهل الثأر، لكن صدموا بتجاهلنا لهم بحيث تركنا ظلنا لهم ورحلنا، لأننا لا نحمل رغبة الانتقام من أي أحد فعدالة السماء كفيلة بذلك.

 

شكر لكل من جعلنا نحس بالخذلان الذي مكننا من انتشال الأفكار الساذجة التي كنا نحملها، فتعلمنا ألا ننتظر الخير من الخلق، وألا نبحث عن كل ما لا يستحقنا، وألا نفكر في الأمور الزائلة، وألا نسعى لقرب أحد سوى الرحمان الذي يزيدنا ثباتا وقوة واعتزازا، وإن قست علينا الدنيا وما تأتينا به إلا أنها غير قادرة على سلب رحمة الرحيم.  وما يصبرنا على تحمل الأفعال اللاإنسانية للذين خذلونا رغم ما قدمناه لهم هو ما نراه من جزاء يطال كل واحد حسب جنس عمله وذلك حاصل ولو بعد حين، فلا مهرب ولا منجى من دفع ثمن ذلك، فالذين قابلوا عطاءنا الإنساني النبيل بالنكران والعداء وغيره من الأمور السلبية سينالون نصيبهم من الجزاء في الحياة الدنيا قبل الحساب الأخروي.

 

وإن كانت الصدمات التي يحدثها الخذلان موجعة جدا إلا أن ذلك ليس دافعا للإحجام عن العطاء وعدم الرغبة فيه، فالذين وعوا حقيقة الدنيا لن يتجرؤوا على منع عطائهم الإنساني عن أي أحد، فضلا عن أن يستجيزوا فعل السوء وإيقاع الأذى بالآخرين، بالسير على سلالم الخذلان أو تسويغه والرضى به. لا تدع الخذلان يقطع أواصر تعاملكم الإنساني، فهناك من يستحق نبل أخلاقكم، وصدق محبتكم، وطيبة قلوبكم، وعفوية تصرفاتكم، وجمال ابتسامتكم، وتأكدوا أنه كلما حافظتم على هذه الكنوز الثمينة التي تكاد تصبح من النوادر في هذا العالم العليل إلا وتيقنا بأن الخيرية لازالت لم تنقطع بعد.

 

شكرا لكل أولئك الذي صقلوا أنفسنا بقساوة خذلانهم، وإن لم نستسلم للقوة التدميرية التي تحملها سلوكاتهم اللاإنسانية، فبتصرفاتهم المتخمة بالخذلان أدركنا أن حفظ الله بمثابة الدرع الواق لكل ما يمكنه أن يتسلل لقلوبنا ليحاول تحطيمها، كما أننا بذلك لامسنا عظمة لطف الديان بنا بعد كل ما يحدث لنا في مشوارنا بهذه الحياة الدنيا. ليس هنالك شعور غير متجاوز مهما كانت حدته بشرط أن يكون القلب متعلقا بالباري؛ مما يعني اكتساب مناعة ذاتية ضد أي هجوم خارجي يمكنه أن يصيب الأمن الداخلي للنفس البشرية، فبه يحافظ على ما يبعث السكينة والطمأنينة لأرواحنا، وإن تهدم وضاع كل ما كنا نعتقد يقينا أنه ثابت غير قابل للزوال.

 

شكرا لمن لم يبذلوا ولو مثقال ذرة من جهدهم في سبيل نصرتنا بالرغم من أننا أغدقناهم بعطائنا ومنحناهم أكثر مما احتجوه في ضرائهم، ونحن بشكرنا لكل من خذلنا لا نبتغي عتابهم أو طلب استرحامهم وعطفهم أو استجداء شفقتهم، ولا ننتظرهم على عتبات أبوابهم ليلقوا علينا بفتات حبهم المصطنع، لأننا أقلعنا من عالمهم للأبد كما أنهم لن يستطيعوا اللحاق بنا مهما حاولوا.

 

سنظل دائما نقول لمن خذلنا شكرا لكم على إظهار وقوفكم معنا في العلن رغم أنكم في الخفاء على نقيض ذلك بمحاولاتكم المتكررة في الدفع بنا للهاوية
سنظل دائما نقول لمن خذلنا شكرا لكم على إظهار وقوفكم معنا في العلن رغم أنكم في الخفاء على نقيض ذلك بمحاولاتكم المتكررة في الدفع بنا للهاوية
 

ستغلق في وجوهكم أبواب تستحقون ولوجها، وستتعرضون لشتى أنواع الظلم والتفشيل والتحطيم، لذا احرصوا بكل ما أوتيتم من إمكانيات على عدم ترك بطش الخذلان ينهب سعادتكم، فتجدوا أنفسكم محاطين بالمآسي التي تلقي بكم في دوامة الحزن والوجع والقهر، كونوا أكثر جرأة على رفض كل ما لا ترضاه أنفسكم وانتصروا لقيمكم ومبادئكم لا لأطماعكم وشهواتكم، وامضوا بكل ثقة في الطريق الذي يوافق ما يرضي ربكم.

 

قلوبنا لا تغفر الخذلان أبدا، ولا تخلق أعذارا له ولكل ما لا ارتباط له بالإنسانية، وبالرغم من أن البشر مجبولون على الخطأ إلا أننا غير مكرهين على التصرف بغير ما هو أخلاقي، لذا فكرامة الإنسان السوي لا يلقى بها في الأرض، كما أن كبريائه لصيق به يستحيل التخلي عنه. عندما تخذلون إياكم أن تقفوا في منتصف الطريق بل واصلوا المسير ولا تنتظروا أحدا ليأتي إليكم فيطبطب على قلوبكم وينسيكم ما يوجعكم، فالحياة تستمر ولا تنتهي وإن وقعتم في حالة العجز على تغيير واقعكم الذي تكثر فيه الآلام والخيبات وتزداد شدتها وحملها الثقيل على قلوبكم وأرواحكم.

 

سنظل دائما نقول لمن خذلنا شكرا لكم على إظهار وقوفكم معنا في العلن رغم أنكم في الخفاء على نقيض ذلك بمحاولاتكم المتكررة في الدفع بنا للهاوية، فعندما ينعدم الصدق وتغيب الشفافية تتحول العلاقات الإنسانية إلى روابط هشة جدا لا يطول استمرارها ولا تصلح لأن يعول عليها. ومهما خذلتمونا سنظل غير متهاونين عن فعل الخير، ولن نسكت عن قول الحقيقة التي تقض مضاجعكم، لذا دعونا وشأننا، فلسنا بحاجة لسؤالكم عنا، ولا دخل لكم في مصيرنا أأطعمنا من جوع أو آمنا من خوف، فمن يتولانا كفيل بنا ولن يتركنا حسبنا إياه ونعم الوكيل.

 

وتذكروا دائما أن أقسى أنواع الخذلان يحصل حين تتمكن الآلام من أجسادكم بالسيطرة عليها وتقييد حركاتها ووظائفها العادية، بالرغم من كثرة المسكنات والمقويات التي تبتلعونها، عندها ستحسون بصدق أنكم مخذولون حتى من صحتكم التي كنتم مغرورين بها وواثقين فيها ثقة عمياء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.