شعار قسم مدونات

مومباي.. مدينة الأحلام والكوابيس!

blogs الهند مومباي

لو تشوقت إلى لقيا مدينة تجمع لك غرب الهند وشرقها، وتبعث فيك جمالها وهيبتها، فابحث في شوارع مومباي الصاخبة، واركض برجليك في تلك "البحار البشرية" التي لها قصص تكمن في طياتها آلافا من الصور والسرائر، من الغموض الذي يشحن فيك روح الحياة ومعنى الوجود، ترى لك فيها تفنن الحياة التي تريد أن تنتفض وتنهض. هي مدينة لا ينتهي ليلها ولا تغيب شمسها، عامرة أزقتها وساهرة أروقتها، جميلة لكنها تفاجأك بعدة مفاجآت ومصادفات، ممراتها مفعمة بنداءات تنتج الحياة، تلخص لك حجم العيش الذي يتحمل كل مرأ في كبده، كل في بحث عن الحياة الضائعة في تلك الزحمات الموحشة، عن شباب ضاع في تلك الزحمة الزاحفة، عن زهرة قطفت من ربيع عمرها، وعن دموع هطلت في ذكرى المحبوب، ترى لك فيها كمية الثروات الفاحشة، ومصاعب الفقر المتعب الذي تلوح خلالها عرقا يسيل ومرارة لا تزول، ملامح شائبة أيست من رحمة الحياة، تلفها غيوم الكمد والأتراح الجائرة، ليست فيها ابتسامات تنبثق من الثغور الوفية ولا تحيات تخرج من شغف اللب المنفتح، بل هي مصنوعة من التكشرات والتشنجات التي تذهب بك إلى عالم الفراغ، وتمتص منك طاقات النشاط والفرح، وتهدي لك خواطر تاهت في ساحات السعي المتواصل لأجل الحياة الهادئة، وتملأ فيك ذكريات لا ينساغ ذوقها.

مومباي ليست كمدينة أشقائها من المدن التي تنفرد بروعتها وبهيبتها، وتنحرف بطبيعتها ومواردها، وليست هي مجرد عاصمة الصناعات الهندية النامية، ولا هي أضخم مدينة تنام في كنفها الأكواخ والحارات، وترقد في ظلماتها جحافل البشر بلفائف الفقر وشدائد الفاقة، خمص البطون، بأصلاب انحنت دون مخالب لقمة العيش، بمدامع غارت لشدة مشاهد الأمل الذي انقض جداره وقوضت خيامه، بل تسودها تشريدات الحكومة وطعنات من الشرطة و"حراس المدنيين". هنالك مومباي خلف الشاشات والأفلام التي تنخدع في بريقها، مومباي التي لا تعرفها "بوليوود" ولا النجموم السينمائية، مومباي الجوع والوجع، مومباي الدموع والمقلات الغائرة، مومباي الكادحين الذين لا يرون صباحهم إلا والعرق يسييل من جبينهم.

روعة الخوف
مومباي لها تاريخ طويل من الاضطهادات والاشتباكات التي اندلعت في الحين والآخر، وفتن هاجت بين الطائفتين والتي قضت على جوها المطمئن بلا هوادة

لو تجولت في شوارعها وجنباتها انتفضت مشاعرك وأصابتك قشعريرة من حيث لا تدري أنت، وانثلج قلبك لرؤية التحولات التي مرت بها مومباي، من نظافة ومناظر خلابة تزين حافات الشوارع، وقطارات سباقة ومتروهات"، ربما انشق قلبك سائلا أهي ذات المدينة التي كانت ملاذ قطاع الطريق، ومهبط التهريب ومثوى المجرمين، والتي غمرتها القوات الإرهابية والصراعات المرتزقة لمدة طويلة. حقا لها تاريخ طويل من الاضطهادات والاشتباكات التي اندلعت في الحين والآخر، وفتن هاجت بين الطائفتين والتي قضت على جوها المطمئن بلا هوادة، ولا تذكر مومباي إلا وأطياف القتلى والجرحى ترافقك وتهمس في أذنيك مزيدا من الأخبار الساخنة، لكن قلب مومباي لا يستسلم لمثل هذه الضجات المحرجة ولا تنقاد لمكائد الخونة والمتربصين، وكم مرة تعرضت لزعزعات سياسية وانزلاقات اقتصادية لكنها وقفت بقامتها المنصوبة وكرامتها المرفوعة، وعادت إلى الحياة أنور وأزهر.

ومن تلك الذكريات الحالكة التي تكاد لا تنسى ما حدثت سنة 1992 المعروفة ب"شغب مومباي"، إثر انهدام المسجد البابري، والتي فجرت أنهارا من الدماء وصنعت سياجات شائكة بين الطائفتين وأفاضت زيتا في مواقد العصبية والغيرة القومية مما روج دعايات أحزاب سياسية متطرفة إذ خرجت إلى الساحات العامة برفع شعارات "القومية المراتشية"، وسببت في طرد أهالي الولايات الأخرى من جنوب الهند ككيرالا، وكرنادكا، وتامل نادو، وعمت في فضاء مومباي أنفاس التفرقة واتسعت الهوة وتعمق خندقها بين شعبها، من جانب تتحلق حولها قوات إرهابية عميلة وأحزاب ذات أبعاد عنصرية لا تهمها إلا تأجيج اللظى وتعكير الفضا، كحزب "شيوا سينا" الذي يقف لنهضة "المراتيين" فقط، والذي يتشدق دائما بخطر المسلمين ويهددهم بأبواق الطرد والنفي، ومن أبرز قيادته عاهل "تاكرا" الذي صنع من الفراغ السياسي الذي أعقب انهدام مسجد بابري عام 1992 ديسمبر 6 مصالحه الخاص وسياسته المنفردة.

 

يتبرق منه أسماء "راجا تاكرا" و"أوداو تاكرا"، فإن له السبابة الأمارة بالفتنة، وفي كنفه توالت الهجمات والتنكيلات على المسلمين حتى راح 900 من المسلمين ضحايا الفتنة، بل لديه مشروعات تتطلع إلى ميدان العمل تحت ستر الليل البهيم، ويريد "توطين" ولايتهم وتطهيرها من العمال "الأجانب" على حد تعبيرهم، ولعب هذا التكتيك السياسي دورا مهما في امتداد الشعار الطائفي حتى اعتلا زمرة من المتهمين مناصبا سامقة في الحكومة رغم الاحتجاجات التي انطلقت من الضحايا بينما كان أكثرهم المسلمين الفقراء، ولم يجدوا آذانا صاغية من الحكومات المتبدلة، لا من "كونجرس" ولا من "بي ج ب"، ولا نخطأ لو قلنا إن راجا تاكرا هو وحده المسؤول عن هذه الفتنة الشعواء، وبأمره ونهيه شبت نار الصراعات من السبعينات حتى أوائل القرن الواحد والعشرين.

رغم كل هذا التوتر خاطرت مومباي بروحها لإعادة جمالها المفقود، وغلبت على جميع المؤامرات التي حيكت من الداخل والخارج، واستدعت جميع أبناء الهند بغض الطرف عن اللغة والإقليم، إلى أن أصبحت "مدينة الأحلام" التي تجدد فيك أملا في الحياة، وتخيط فيك حرير الفرحة والراحة، ووقفت في وجه الكوارث الطبيعية التي ضربتها في الفينة والأخرى من هطول الأمطار والإعصارات والفيضانات العارمة ببسالتها النادرة وصمودها الفذ. من هنا سميت مومباي ب"مرآة الهند"، تنعكس فيها شتى الألوان والعناوين، عدساتها تلتقط صور دولة تعيش فيها والآلاف مشردين، أنوفها مزكومة برياح الأكلات الشهية، محرمة من كل حلويات الحياة، وترى فيها تنوعات الهند وتعدديتها المبهرة، مزيجة من التراث الفاخر والحاضر المتطور، فيها أنه الجائع وعويل المتسول، وتثاءب الغني وجشاعه المتكرر. ولا تخيب ظنك لو خططت لجولة سياحية فيها لا سيما في شهري سبتمبر وأكتوبر، ترحب بك البوابة الهندية العملاقة المطلة إلى البحر العربي الهائج، وعلى ضفافه فندق "تاج" البارق، وعلى موائده توزع التواريخ وتستذكر الآثار من الاحتلال البريطاني إلى اليوم هذا، لكن ما الذي يجعل هذه المدينة مهبط الأحلام ومحط الآمال، وكعبة الأعناق الطوال؟، والبحث عنه يؤديك إلى اكتشاف حقيقة مومباي العزيزة، من المآثر التاريخية والمباني الشامخة التي تعبر عن الأيادي الكادحة.

بوابة الهند أو تاج محل مومباي
على مدى التاريخ كانت مومباي وما زالت حاضنة الأحلام المزهوة، موشحة بشالة الأمل والأمنيات الدفينة، وفي نفس الحين كانت سجن الكوابيس المروعة، ولفتها أنواع الخوف والقلق

هذه هي من إحدى المعالم التاريخية التي ترحب السياحين من أنحاء الهند، تطل إلى البحر العربي بثلاث قببها العالية، بنيت إثر زيارة الإمبراطور البريطاني جورج الخامس وزوجته الملمة مريم إلى الهند عام 1911، ويقف بجوراه فندق تاج الفاخر، يحييك بهندسته المعمارية المتألقة، انسجم في بنيته الفن الإسلامي والهندي والأوربي معا، وقبته الحمراء تزيد في فخامتها وتعبر عن هيبتها التاريخية، ويقال في تاريخ بناءه إن بانيه "جمشدجي تاتا" -وكان غيورا ومتحمسا لوطنه- بعد أن شاهد البريطانيين يتفاخرون بثروتهم الضخمة المستنزفة من موارد الهند، أراد وأصر على تأسيس فندق ضخم فخور بتراثه الهندي الخالص يتردد إليه سكان الهند جنوبا وشمالا، فخصص لبناءه جميع أمواله وممتلكاته.

بوليوود

إنه لا تذكر مومباي إلا وتذكر معها بوليود ونجومها، فريثما حللت في الدول العربية لا سيما في مصر فاجأتك أسئلة غزيرة تتزاحم عن الأفلام الهندية، وعن ممثليها، وسترى الشباب العربي يندفعون وراء تلك الأفلام التي تخبأ عنك كثيرا، ولي صدفة جميلة خلال زيارتي لمصر حيث تعرضت ل"ابتزاز ودي" من الشاب المصري، يسأل عن شاروخ خان وغيره، ويسأل عن مومباي وأفلامها المثيرة، ولا يهمه واقعها المرير الذي يخبأ ظلمات الحارات والأحياء التي تلتحف بلحاف الجوع والتعطش، إلا أنها بقيت أواصرا قوية تربط الهند بالعالم العربي، وهل هو تصديق ما قالوا " الفرق بين العرب والغرب نقطة واحدة، هم أمة الأقلام أما نحن أمة الأفلام".

مدينة الأوائل

لا تقتصر مزايا مومباي في تاريخها وحاضرها بل تمتد منها إلى شتى الأفنان، لها بصمات هائلة في تلميع الهند إذ تمتلك خصائص لا بد من ذكرها، وهي أنها المدينة الأولى التي تواجد فيها فندق 5 نجوم، بل مر على متنها القطار للمرة الأولى في تاريخ الهند، يوم سار القطار من مومباي إلى تانا عام 1853، وهي أولى المدائن التي عرضت فيها الفيلم، وهكذا إلى أن المطار الأول تم تأسيسه فيها. وعلى مدى التاريخ كانت مومباي وما زالت حاضنة الأحلام المزهوة، موشحة بشالة الأمل والأمنيات الدفينة، وفي نفس الحين كانت سجن الكوابيس المروعة، ولفتها أنواع الخوف والقلق، احتشدت في جنباتها جنود الهم واليأس، حاصرتها جيوش الظلام الموحش، لكنها لم تتبرم في مد يدها الحانية، ولم تنهر سائلا ولم تقهر يتيما ولا أرملة، وظلت مومباي خيط الحضارات ومسرح الحياة المتبدلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.