شعار قسم مدونات

اتفاق إدلب.. هل تنازل بوتين عن حرق معقل الثوار؟!

blogs قمة سوتشي

مع مساء الإثنين 17 سبتمبر/ أيلول 2018، خرج علينا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتحدث عن تسوية جديدة لأزمة منطقة إدلب، بعد أسبوعين من الشد والجذب بين القوى المُكوّنة لمسار أستانة، موسكو وإيران في جهة وأنقرة في الجهة المقابلة. ومن مدينة سوتشي الروسية، أعلن بوتين عن الاتفاق مع تركيا حول إقامة منطقة منزوعة السلاح في إدلب بعمق 15 – 20 كلم على امتداد خط التماس بين جيش النظام السوري وميليشياته ومجموعات المعارضة المسلحة، وذلك بحلول 15 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل. وعقب هذا الإعلان المثير، خرجت أبواق إعلامية تشيد بالنجاح الدبلوماسي التركي في الوقوف أمام طموح وغطرسة روسيا وإيران والنظام السوري بخصوص السيطرة على إدلب المعقل الأخير للمعارضة السورية في البلاد.

تدور تغريدات، ومنشورات، ومداخلات تلفزيونية في فلك أن بوتين تنازل أخيرا، ووافق على إلغاء العملية العسكرية المزمعة للسيطرة على إدلب والتي استمر الإعداد لها على مدار الشهر الماضي، ولم يتوقف التنازل الروسي عند هذا الحد بل حتى إلى موافقته على سحب الأسلحة الثقيلة من المنطقة. لكنّ هذه الإرهاصات تقودنا في الوقت نفسه إلى السؤال عما دفع بوتين المعروف بالخبث والعناد إلى هذا التنازل؟ إذا كان هو كذلك! وما هي الأوراق التي لعبت عليها تركيا لتدفعه إلى مثل هذه الخطوة؟ لاسيّما وأن هذا الاتفاق جاء عقب أيام قليلة من خلافات ظهرت جليا بين الجانبين خلال قمة طهران التي جمعت رؤساء إيران وروسيا وتركيا لمناقشة الوضع في إدلب. ألم تكن هذه الأوراق في يد أنقرة حينها؟! أم أن ثمة أمور تدور تحت الطاولة تعجز وسائل الإعلام عن نقلها؟

وجدت إيران الأزمة في سوريا فرصة كبيرة لشق طريق اقتصادي يربطها بالبحر المتوسط مباشرة عبر الأراضي العراقية والسورية، ومن ثم تصدير غازها الطبيعي إلى أوروبا

لا ريب أن إجابة السؤال الأخير هي بالتأكيد نعم. والأمر ليس بحاجة إلى التخصص أو قراءة عشرات الأبحاث عن الأزمة في سوريا، بل المتابع البسيط لأي نشرة أخبار دولية خلال الشهور الماضية بإمكانه رسم إطار واضح المعالم إلى حد كبير عما يدور على الأرض، والتوجه الذي تسعى كل قوة إلى فرضه على الآخرين في سوريا. لا يمكنني في الوقت ذاته إنكار مدى تعقد المسألة السورية عبر سنواتها الثمانية، وما طرأ عليها من دخول وخروج قوى إقليمية، إلى ما آلت إليه الأوضاع حاليا.

وكما هو معروف، تتواجد 4 قوى رئيسية في البقعة التي درسناها في مادة الجغرافيا تحت اسم سوريا ومساحتها نحو 185 ألف كلم مربعا، هي روسيا، وإيران، والولايات المتحدة، وتركيا، إلى جانب جيش النظام وميليشياته، ومجموعات المعارضة المسلحة. تعاني هذه القوى الأربعة الرئيسية أزمات وخلافات كبيرة فيما بينها، حتى لو ظهر أحيانا أن أحدها حليف للآخر أو على الأقل صديق له. فروسيا خاطرت مخاطرة كبيرة بدخولها المعترك السوري في نهاية عام 2015، رغم وضعها الاقتصادي الصعب، لكنها وجدت أمامها فرصة سانحة لوضع موطأ قدم مهم للغاية في شرق البحر المتوسط ذي الأهمية الاستراتيجية الكبيرة بالنسبة للعالم بأسره، من الناحية الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ونجحت بالفعل في استثمار ذلك.

وإيران سعت بكل ما تملك من قوة لحماية كرسي حكم سوريا للعائلة النصيرية، وبالتالي الحفاظ على نفوذها في المنطقة، بل ووجدت الأزمة في سوريا فرصة كبيرة لشق طريق اقتصادي يربطها بالبحر المتوسط مباشرة عبر الأراضي العراقية والسورية، ومن ثم تصدير غازها الطبيعي إلى أوروبا، وهو ما يمثل خطا أحمرا بالنسبة لروسيا. كما تخيلت إيران أن نفوذها الكبير في سوريا، سيوفر لها مساحة للضغط على الولايات المتحدة من أجل تنفيذ رغباتها أو على الأقل الحد من تهديداتها المتلاحقة لها، في مقابل عدم المساس بإسرائيل، أي استخدام نفوذها في سوريا كفزاعة لواشنطن وتل أبيب.

أمّا الولايات المتحدة، فترى نفسها القبطان الذي تسير السفينة بأوامره وتوجيهاته، ولن تغض الطرف أبدا عن ظهور منافس لها على هذه الأرض، وعليه تتبنى سياسات باستمرار للحفاظ على هذا التوازن، وتُغير حلفاءها باستمرار في ضوء هذه الاستراتيجية، وبالتأكيد فالوجود الروسي والإيراني في بقعة حساسة مثل سوريا والبحر المتوسط يمثل تهديدا مباشرا لمصالحها في المنطقة، ما دفعها لنشر قواتها في مناطق الشمال متحالفة مع الأكراد (أعداء تركيا)، كذلك التعاون مع قوات محلية في الجنوب السوري، وتأسيس قاعدة التنف هناك، لمنع وصول أية مساعدات برية من إيران إلى سوريا عبر العراق.

وأخيرا، تركيا حفيدة الدولة التي عُرفت في بداية القرن العشري برجل أوروبا المريض، فقد وجدت نفسها خارج اللعبة على مدار عقود من الزمان، لكن هذه المرة الوضع يمسها جغرافيا ويؤثر على أمنها القومي، ولا تريد بأي شكل من الأشكال انتقال فتيل الصراع داخل حدودها، لاسيما وأن مناطق جنوب شرقي البلاد أرضا خصبة لذلك، حيث أغلب سكانها من الأكراد وتربطهم أواصر تاريخية وثقافية بمناطق شمالي سوريا والعراق ذات الأغلبية الكردية (تسعى للانفصال وتأسيس ما يُعرف بدولة كردستان التاريخية).

لا شك أن بوتين يدرك جيدا أهمية كسب ود الأتراك، نظرا لثقلهم السياسي بالنسبة للشرق الأوسط وأوروبا، وعدم تهديدهم لبلاده على مختلف الجوانب، فضلا عن قدرتهم على الوقوف أمام الطموح الإيراني
لا شك أن بوتين يدرك جيدا أهمية كسب ود الأتراك، نظرا لثقلهم السياسي بالنسبة للشرق الأوسط وأوروبا، وعدم تهديدهم لبلاده على مختلف الجوانب، فضلا عن قدرتهم على الوقوف أمام الطموح الإيراني
 

أعتقد أن بوتين سعى فقط إلى جث نبض القوى المحيطة به عن طريق بطاقة إدلب، ليكمل خطة ما بدأ تنفيذه بالفعل في سوريا. ففي البداية احتوى حماسة النظام السوري وإيران ورغبتهما في السيطرة على كامل التراب السوري، والقضاء على آخر مراكز المعارضة، ووقف في قمة طهران إلى جانبهم، الأمر الذي أغضب الأتراك. في نفس الوقت قام بقياس ردود أفعال أعدائه في أوروبا والولايات المتحدة، الغارقين في مشاكلهم المحلية، تجاه أي خطوة سيقدم على تنفيذها في الشرق، ومدى تجاوبهم المستقبلي مع الأتراك في هذا الأمر.

لا شك أن بوتين يدرك جيدا أهمية كسب ود الأتراك، نظرا لثقلهم السياسي بالنسبة للشرق الأوسط وأوروبا، وعدم تهديدهم لبلاده على مختلف الجوانب، فضلا عن قدرتهم على الوقوف أمام الطموح الإيراني من جهة وأمام الجماعات المسلحة المتطرفة في المنطقة من جهة أخرى، وهذه من أبرز العوامل التي دفعته إلى إبرام التسوية الجديدة مع تركيا. بوتين غير مهتم باستقرار سوريا، وعودة السوريين إلى أراضيهم، وحلول الأمن والاستقرار من جديد في البلاد، بقدر اهتمامه بتشكيل سوريا جديدة متوازنة القوى، تخضع جميعها إلى توجهاته، ولا تمثل له أية مخاطر في المستقبل.

لذا، يسعى للتواصل مع الجميع ولا يرغب في خسارة أية طرف على حساب الآخر، شريطة عدم المساس بمصالح بلاده، والوجود التركي في سوريا يحقق له مبتغاه، وأظن أنه من الصعب أن يغامر مستقبلا بخسارة هذا اللاعب القوي أبدا. لكن لا استبعد شيئا. مازال المعترك السوري يعلمنا يوميا دروسا، كنا اعتدنا على قرائتها سابقا في كتب التاريخ والسيرة، لكننا لم نتخيل أن نشهدها أمام أعيننا يوما ما. ورغم ذلك ما نزال نحن – أصحاب القضية الأصليين – غارقون في متاهاتنا التافهة، وأكبر همنا التصريحات والتغريدات حول هذا تنازل، وذاك انتصر، وهذا أقوى، والآخر أضعف. اعتدنا دائما على تصنيف الحياة عبر استخدام اللونين الأبيض والأسود، لا نعرف الرمادي أو البني، والنتيجة كما نرى فشل ذريع في شتى أمور الحياة، ولا نجاح سوى في مناطحة بعضنا البعض.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.