شعار قسم مدونات

حَياتُنَا الافتراضية.. كيف نهرب من سيطرة الأحلام؟

blogs تأمل

أن تغوص في اللاّشيء، أن تسرح بعمق، فينتقل بك عقلك من فكرة لأخرى حتّى تبتعد عن أول فكرة بكثير، لدرجة أن تتساءل ما الذي أوصلني إلى هنا يا ترى؟ فتُحاول استدراك كل ما فكرت به فكرةً فكرة، لربما تتذكر وربما لا. هي متاهةٌ تضيع فيها دون حراك، لن تحتاج فيها لسيارة أو حافلة، كل ما تحتاجه هو الخيال. تُبحِر من خلالها لأبعدِ نقطة، ربما ستفيدك في حل بعض الاستفهامات الّتي حاصرتك منذ مدّة، وربما ستزيد الأمور تعقيدًا فتتشكل بذلك استفهامات جديدة.

قد تبحر بك لأفكارٍ من الممكن حدوثها، أو ربما تبحر بك إلى المستحيل، كما قد تردمك في قبر منن الأحزان مثلما قد تنتشِلُك منه إلى دنيا الأحلام، حيث السعادة الأبدية فتأخذ بيدك إلى من تحب أحيانًا وأحيانًا إلى مَسرحِ طموحاتك التي تسعى إليها. كما قد تفقدك عزيزًا عليك مثلما قد تجمعك بغائب، أو تفتح الطريق أمامك فلا يعرقل مسيرك شيء، كما قد تخلق حاجزًا كحاجز يأجوج ومأجوج. قد تصعد بك لسابع سماء أين سدرة المنتهى مثلما قد ترمي بك لقعر الأرض. أفكارٌ تنسحِب وأخرى تأتي وأنت ماتزال داخِلها تنتقِل منها إليها.

في سن البراءة والطفولة تُحولك لأمير(ة)، بيت من كعك وحلوى، أو تُلْقِي بيدك عصى سحرية تبني بها قصرًا وترسم لك طريقًا من قوس قزح، أمّا ما بعد الطفولة فستكون إنسانًا غنيًا يملك خزانة لا حصر لها من ملابس من كل شكلٍ ولون، أحدث وسائل التكنولوجيا وأجملها..، لتنتقل بك بعد سن العشرين لمعرفة نصفك الآخر، شكله حاله وماله، طموحاتك وأحلامك، دراستك وأهدافك، وغيرها من الأفكار اللاّمنتهية والّتي لا حدّ لها.

إدمان الأحلام سيجعل صاحبها دائم السرحان والشرود، تستنفذ كل طاقته في التفكير فتبعده عن الدراسة والعمل، فيصيبه صداع كما قد تضعف تركيزه، أو يصيبه النسيان فيصعب عليه التذكر

كما أنّه وفي بعض الأحيان قد تتحول أحلامنا إلى حقيقةٍ بفضل قانون الجذب العام، فكم من عالم ومخترع عاش أحلام اليقظة ليجعل منها واقعًا ليخدم به الإنسان. قد تأخذنا هذه الأحلام لثواني أو دقائق كما قد تأخذنا لساعاتٍ، فتصبح إدمانًا نهرب به من الواقع لنعيش كما نهوى ونرغب، قد تؤرقنا ليلاً فيتملكنا السُّهاد كما قد تُسَهِل نومنا فتمنع عنّا سهر الليالي الطوال.. قد نسميها أحلام اليقظة، شرود، خيال… إلاّ أنها كلّها تصب في قالب واحد ألا وهو الوَهْمْ، فليست واقعًا ولن تكون يومًا كذلك، بل هي دنيا الخيال الّذي نتمناه أو يقودنا إليه تفكيرنا دون إدراك منّا.

نتأثر بها وتؤثر فينا، قد تُضحكنا وترسم بسمة على وجوهنا، كما قد تُبكينا وتكسر قلوبنا، قد تجعلنا نعيش لحظاتٍ نتوق لها، مثلما قد تضعنا في مواقفٍ لا نتمنى أن نعيشها بتاتًا البتة، قد تَسرِقُ منّا أهلنا وأحِباءنا، فنراهم في نعشٍ ونحن نبكيهم فنبكي لحظتَها بحرقة، كما قد تجمعنا ببعيد وقد تحقق طموحاتنا فترسم بسمة وتزرع فينا أملاً لتزيدنا إصرارًا وعزيمة، لتُشعِرنا بالرضى وتعوض واقعنا بالخيال.. ليس منا من لم يحلم بها ليهرب من واقعه ويُشبعه بالخيال، ليحقق رغباته فيصبح الغنيُّ فيها فقيرًا والفاشل ناجحًا والأعمى مبصرًا.

إلاّ أن إدمانها سيجعل صاحبها دائم السرحان والشرود، تستنفذ كل طاقته في التفكير فتبعده عن الدراسة والعمل، فيصيبه صداع كما قد تضعف تركيزه، أو يصيبه النسيان فيصعب عليه التذكر، تُشتت انتباهه وتجعله دائم الشرود والتَوَهَان، فهي كالخمر تساعد مدمنها على الهروب من الواقع المؤلم إلى عالم الخيال، لكن سرعان ما تعود به ليستيقظ على واقعه الذي قد يصبح أشد صعوبة بعد ذلك.

كما تغمرُ الأوهام صاحِبها بنشوة عارمة وسعادةٍ بالِغة فإنّها تردم به فور صحوته منها في دهاليز الخوف والاكتئاب الّذي قد يفضي به إلى الانتحار، لأنّها ببساطة أصبحت سلطة عليه
كما تغمرُ الأوهام صاحِبها بنشوة عارمة وسعادةٍ بالِغة فإنّها تردم به فور صحوته منها في دهاليز الخوف والاكتئاب الّذي قد يفضي به إلى الانتحار، لأنّها ببساطة أصبحت سلطة عليه
 

قد لا يدرِك مُدمِنها كيف آلت به الحال إلى ما هو عليه، أصبح جسدُه مفصولاً عن روحِه وكأنّه في غيبوبةٍ لا يستطيع الخلاص مِنها، لا يدري كيف دخل فيها ولا كيف ادمنها كلُّ ما يعرِفُه أنّها الخلاص من عالَمِه البائس المملوء بلحظات الفشل والذّكرياتِ الأليمة، تسرِقُ منه روحَهُ وتأخذُها إلى دُنيا الأحلام، أين لا توجد حواجز تعِيقُه للوُصول إلى ما يُريد، دُنيا مغرية وأحلامٌ أكثرُ من ذلك.

كلّ ما يعرِفه أنّها الخلاص، أين يُصبِح اللاّممكِنُ ممكِنًا، تُحرّره من كلّ شيء وتستدرجهُ نحو السعادة الأبدية الّتي لطالما كان يحلُمُ بها، سلطان عالمه، عالمه الخاص الّذي يتفرّد به، فلا يدخُله شخصٌ دون إذنه ولا يتحرّكُ منه شيءٍ دون رغبةٍ منه. دون أن يدرِك أنّ روحه تُفلت من بينِ أنامله شيئًا فشيئًا كحفنة ماء، فإن لم يستدرِك حاله ضاعت منه وهلك كهلاكِ المدمِن على الكحول والمهلوسات.

 

فكما تغمرُ هذه الأوهام صاحِبها بنشوة عارمة وسعادةٍ بالِغة فإنّها تردم به فور صحوته منها في دهاليز الخوف والاكتئاب الّذي قد يفضي به إلى الانتحار، لأنّها ببساطة أصبحت سلطة عليه، وأصبح صاحِبها ورقة بين يديها تفعل به ما تشاء دون أن ينبس بكلمة، مستسلمًا لها كلّ الاستسلام وقابعٌ في مكانِه دون حراك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.