شعار قسم مدونات

أحبب من شئت فإنك مفارقه..

blogs تأمل

يحين موعد الفقد كلٌ ودوره، نفقد صديقاً أو قريباً أو حبيباً، أحدهم يأخذه الموت حيث لا رجعة، وأحدهم تأخذه مدينة ما، تبعد عنا آلاف الكيلومترات سعياً وراء وظيفة أو طلباً للعلم أو تمسكاً بحلم ما. كم يكون الانتظار قاسياً لشخص وراء الضفة الأخرى من البحر، وكم يكون أقسى لشخص ضمه التراب ولن يعود أبداً. أن تعيش على أثر الشوق مهما كنت سعيداً، ستكون هناك فوهة يتسرب منها الحزن على شكل الحنين، الحنين إلى ذكريات كنت يوماً ما تصنعها معهم بإتقان لتبقى جميلة في عقلك لن يفسدها الغياب مهما طال.

 تأخذ الذاكرة مساحات أكبر وتزداد عمقاً لتصور لنا شكل وجوههم التي كنا يوماً ما نراها أمامنا، نلمسها ونقبلها ونقرأ في عيونهم ازدحام الكلمات قبل أن ينطقوا بها، نسمع قلوبهم تنبض خوفاً أو حباً، نتحسس أيديهم إن كان بها أثر للصقيع، نستأنس بالجلوس معهم وضحكاتهم تغمرنا دفئاً. فجأة يحل الفقد ليفسد روعة اللقاء، تجد نفسك مجبراً على أن تكمل الطريق وأنت تردد (الحياة لن تقف على أحد) منذ الأزل ودستور الأرض يضع كلمة الفقد في قوانينه تلك سنن الله في خلقه. يموت أحدهم ليولد آخر، يضطر بعضهم للرحيل لسبب ما، لكن هناك حتماً ساعة ستجمعنا يوماً. لو لم تخلق التكنولوجيا لتكلفنا عناء كتابة الرسائل وتربية الحمام الزاجل، لكن هناك منا من صفعه الشوق على عقله ليجعله يفكر في اختراع الهاتف، حتى ذلك الصوت الخافت المتقطع سيفي بالغرض ويجعل أجنحة القلب ترفرف في سماء الفرح. يمكنك خلف تلك السماعة أن تسمع همس أنفاسهم وتعد ضحكاتهم وتطرق باب أحلامهم، يكفي هذا لتتأكد أن أرواحهم ما زالت مستيقظة وتحن إليك، لا بد أن تكون هناك مساحة للقاء ما دام للغياب ذلك.

لا شيء يمكننا أن نقدمه للذين غابوا سوى الدعاء، فهو الوحيد الذي يخترق أبواب السماء ليمطر علينا بالإجابة، فنتهادى الحب غيباً بالدعاء.

سأمر على بيتهم وأطرق باباً لن يفتحه أحد، سأحمل إليهم أسراري وأنا أعلم أنهم أغلقوا الصندوق الذي خبؤها فيه يوماً، سأروي قصصاً لن أجد من يسمعها، سأمشي في طريق طويل ويداي وحيدتان، لأي حجم سيكون الغياب قاسياً؟ صدق أحد الكتاب حين قال: أبيض هو الغياب كموت بعيد. لكنك لن تموت لمجرد أن أحدهم تركك، يجب أن تشق طريقك لأجلك، وتلملم شتات روحك، وترمي قطرات الدمع بعيداً عن وجهك. القوة ستأتيك من داخلك حين تريد أن تنسى ستنسى، ما من إرادة أقوى من إرادة الإنسان إذا عزم على شيء. يقول جبران خليل جبران: (الغياب ليس ذنب بل الإفراط بالشوق خطيئة). لا مزيد من الخطايا وألجأ إلى الله فهو الوحيد الذي إذا ضيعته تضيع وما غيره سراب، وسيدنا عمر بن الخطاب ترك لنا ما يشفع لجروحنا حين قال: (أحبب من شئت فإنك مفارقه).

لا بد وأن تحين ساعة الفراق لكل شيء أحببناه وتعلقنا به في هذه الدنيا، حتى هذه الكرة الضخمة التي حملت أجسادنا دهراً من الزمن سنفارقها، فكيف لا نقدر على فراق الذرات التي فيها! بيتك.. أحبابك.. أموالك.. تخيل كم سيكون هذا صغيراً جداً ما إن تكون هناك في العالم الآخر. خذ من حياتك مزيداً من جرعات السعادة، وعش يومك كأنه آخر صفحة منها، ولا تعكر صفوها بالمبالغة في الشوق أو الحنين. بعد يومين سأودعها في المطار، ستأخذها باريس بعيداً عن هنا، ولن تعود إلا بعد سنوات طويلة هذا وإن عادت! فبعض المدن تسرق الغرباء وتسجنهم فيها للأبد، سأحتفظ بصورها جيداً، وإن تصادف والتقينا يوماً ما سأذكر لها بأنها كانت لصيقة بروحي بحجم المسافات التي باعدت بيننا.. حديثك.. ابتسامتك.. عيناك ستكون كلها حاضرة في خيالاتي. سأصنع لنا لقاء في الخيال كل ليلة، وأحدثك عن أمنياتي التي سأختصرها في واحدة وهي أن أراك من جديد.. لا شيء يمكننا أن نقدمه للذين غابوا سوى الدعاء، فهو الوحيد الذي يخترق أبواب السماء ليمطر علينا بالإجابة، فنتهادى الحب غيباً بالدعاء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.