شعار قسم مدونات

كيف يعيش مرضى الاكتئاب؟

مدونات - اكتئاب

(كُرتان بحجمِ الليمونة هما القلق والتوتر، ونِقطتان بحجم رأسِ عود الكبريت هما الاستقرار والاطمئنان) هذا ما قاله طبيب نفسي وهو يِصف عقل شخص مكتئب قد تعتبر ذلك مُجازاً لكن من الطبيعي أن نشعر أوقاتاً بالضيق والحزن أو الرغبة بالبُكاء. لكن الاكتئاب هو مشاعر في غاية القسوةِ من الحُزن واللامبالاة قد تستمر أسبوعين أو أكثر، تتوقف معها أنشطتك علاقاتك وتفقد رَغبتك في فعل أي شيء. ومع ذلك فالاكتئاب ليس أمراً سلبي من المُكتئب أو ضعفاً في الشخصية، لأن الانسان نهايةً هو عبارة عن كتلةُ من المشاعر والأحاسيس المتنوعة، فمثلاُ للحزن دائماً هناك سبب فنحن نعلم ما سبب حزننا ومًنْ الذي أحزننا ولماذا، وغالباً ما يكون الحزن فترة وتمضي. بينما الاكتئاب هو شيء يجتاحُ جسدك بلا استئذان وبدون معرفة سبب اجتياحُه، وغالباً لم يكن في الأصلِ سبباً مباشراً للاكتئاب الذي تعيشه.

شهر كامل وأنا في المنزل بدون أي شيء مفيد، تجنبتُ الكثير من الأشخاص بلا سبب، وتجنبتُ ردود أفعالي وحتى الرد على الرسائل التي باتت متراكمة في هاتفي، مُتقوقعة على نفسي وقابلة للانفجار، هادئة لكن دواخلي براكينٌ لا تهدأ ممتلئة بألف خدشٍ وندبة. لا أعلم ما سببهم وبالرغم من عُزلتي لم يكن عندي ردة فعل لأي شيء، فلم أذكر أنني مرة شعرتُ بالجوع أو بالوحدة أو حتى بالرغبة للتحدث مع صديقاتي. لم أستطع في ذلك الوقت أن أعرف ما المشاعر التي تَختلج في صدري ولا الأفكار التي تصولُ وتجولُ في رأسي الذي بُتُ أشعر، وكأنه كُرة كبيرة لا أستطيع حملها من وهمها الثقيل وعلى وشك الانفجار، لم أستطع معرفة سوى أنني لدي رغبة بالبكاء والشرود في سقف غرفتي الذي أعرف كُلَّ نُكشٍ فيه ولا أشعر سوى بالتعب اللامنطقي. كانت "مرحبا" تُخنقني وتحبسُ أنفاسي، واهتمام صديقاتي لحالي يزعجني جداً، أخشى أن أنظر لأشعة الشمس، باتت أشعتها تزعجني، ألجأُ لغرفتي المظلمة التي لا يمكن أن تتسرب إليها الشمس قَدَرَ خِرمِ إبرة عاشقةً للوحدة لحدِ الشذوذ.

الاكتئاب عِزلةِ النفس ولو كان بين الجموع والعزلة التعرف على النفس ومصالحتها، وكلما صالحت نفسك كلما أبدعت وكنت المرساة والركيزة الأساسية لنفسك.

سراديب وجع كانت كالجاثوم مُسيطرة على جسدي وروحي على وشك الانطفاء، كان نتاج الأفكار المتزاحمة في عقلي أنني لم أستطع بعد مواصلة الحياة، لأن هناك شيء أوقعني الوقوع المميت. ذاك الشيء الذي لم أعرفه بعد، كنتُ أعتقد أنه بأي لحظة سيبتلعني ذلك الظلام الدامس ويقذِفُ بي بعيداً حيث سراديب الألم. إنها حالة هستيريا كما قالت لي أمي يوم غضبت من وضعي وصرخَتْ بوجهي لأكُفَ عن هذا الحال الجنوني، فكرتُ للتو أنني كيف سأنجو من معركتي هذه؟! كيف سأتخلى عن فكرة بقائي في قوقعة الضعف والضياع هذه؟! كيف سأقنع العالم الخارجي أن سِجنَ ذكرياتي هو حريتي الوحيدة التي أمارسها سراً وكل ما أُعلن أمامهم ما هو إلا أضغاث أوهام كيف سأجبرهم على تصديق أن عزلتي بالتفكير هو حقنتي المهدئة واستَخدمُها بإسراف، خصوصاً عندما تأتيني النوبة القاتلة بعد الثانيةِ عشرَ ليلاً، نوبة الضَعفِ والكِسرةِ والاشتياق كيف سأخبرهم أن حقيبتي خلف ستار قلبي.

بعدما تخطيت هذه فترة التي لم أستطع أن أسميها بمسمى، توصلتُ لأن الاكتئاب هو مرض مثله مثل أي مرض آخر، مثل الرشح.. الالتهاب.. الصداع.. يحتاج فترة ليخرج منا، لكنه الأقسى والأسرع عودة، إنهُ حقاً لو كان الاكتئاب رجلاً لقتلته. نحمل بدواخلنا كرهٌ حاد للاكتئاب، لكننا لا ننكر فضله علينا أنه قد يغير مسار حياتنا، إن الشيء الوحيد الذي لم يتوقف خلال فترة اكتئابي هو الكتابة فقد اكتشفت قدرة الشخص المُطارد فكرياً ذو الروح الباردة على استحضار مواهِبهُ أياً كانت. كنت أبحث عن نفسي في كتاباتي طوال الوقت كشخصً مطارد، إنها فترة تجربة وتوضيح وتنقيح لكل ما سبق لنكمل الجزء الأخر من حياتنا.

من يقول بأنه لم يشعر قط بالاكتئاب ولم يشعر بوخزِ الحزن سأقول له أنني حقاً أشكُ في آدَمِيَتِكَ، أذكر يوماً قالت لي صديقتي في الجامعة ذات الكتاب المغلق والضحكة العالية الجميلة التي لا تفارقها، أنها كلما رأتني تشعُر بوجعٍ بالقلب وشيء ما يُخيم على روحها. الاكتئاب ليس مُعدي يا صديقة، لكنك تواجهي الحقيقة التي تخفيها داخلك، فالاكتئاب لا يجعلك لا تضحكي على العكس فأغلب مرضى الاكتئاب كانوا أكثر الناس ضحكاً ولهواً، وليس شرطاً أن يجعلك تنعزلي، فأكثر مرضى الاكتئاب من الناس الاجتماعيون بالدرجة الأولى، وبنسبة كبيرة الاكتئاب لا يحولك لشخص عدواني، بل يُرسخ داخلك السلام واللامبالاة اتجاه الناس. رغم أن الاكتئاب نقيضَ الحياة، لكنني أُعجب كيف يكون للحياة معنى بلا اكتئاب، قد اختلف العلماء في تشخيص الاكتئاب لكنهم اتفقوا على أن أخطر وأزمن حالات الاكتئاب هم أولئك الذين ينكرون ويرفضون الاعتراف بهِ، أولئك الذين يظنون أنهم أبعد ما يكون عن الاصابة بهِ. تصالحوا مع اكتئابكم وواجهوه بكلِ استسلام، هي سلسلة بسيطة جداً. الاكتئاب عِزلةِ النفس ولو كان بين الجموع والعزلة التعرف على النفس ومصالحتها، وكلما صالحت نفسك كلما أبدعت وكنت المرساة والركيزة الأساسية لنفسك، لرأيت عمق الشعور وأعماق الناس وأفكارهم بعدسة أدقُ من كاميرا أُحادية العدسة العاكسة لعرفت السلام الداخلي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.