شعار قسم مدونات

هل يمكن أن تكون للسرطان أسباب نفسيّة؟!

blogs السرطان الاكتئاب، نفسية

استيقظت السيدة (س) مبكرا، يبدو أنّها لم تغف إلّا لسويعات، كانت تشكو من التعب كمن قضى ليلته في سباق الماراثون، لاحظت مؤخرا مجموعة تغيرات على ثديها، فمرّة تتلمس كتلة صغيرة ومرّة تراقب احمرارا وتارة تقشّرا، ويبدو أن حجمه فعلا تغيّر وكلما برزت الأعراض تفاقم القلق وازداد الأرق، لكنّه الألم ولا يبدو الأمر متعلقا بالوسواس! لن يجدي زيت الزيتون نفعا ولا تلك المرطبات ستفي بالغرض وتداوي ذاك الطفح الجلدي. "صعب أن تعيش الألم وحيدا، فهناك كتلة أخرى محبوسة بالقلب؛ تجمّعت من الكلام المكتوم يكوّنه الخوف في شكل ضغط مزمن حلّه حجز موعد لدى الطبيب! الطبيب سيزيل الشكّ، مهلا! ماذا لو كان هو؛ المرض الخبيث، ماذا لو كان "السرطان"؟"هذا ما استطاعت أن تواسي أو تعزّي به نفسها!

نعم إنّه السرطان هذا ما أسفرت عنه أجهزة الكشف وأثبتته التحاليل الطبية والفحوصات المخبرية وشخّصه أطباؤها، لم يكن وسواسا ولم يكن شكّا، إنّه الحقيقة.. السيدة (س) ليست إلّا حالة من بين الملايين من الحالات عبر العالم التي تبدأ رحلتها مع السرطان بشتى أنواعه ودرجاته وتهديداته، فيدخل حياتها حدثا ضاغطا وقد نقلها من الحالة العادية إلى أخرى تدعى المرض، سوى أنه ليس كأيّ مرض في نظر الكثيرين، هو مرض يحمل معه هوية "السرطان"، هذا المرض "الصدمة" الذي يتصوّره البعض نهاية ما أن يبدأ!

يعرّفه الأطباء "طبيا" على أنّه مصطلح يجمع بين أنواع من الأمراض؛ يتميّز بنمو غير طبيعي للخلايا التي لها القدرة على الانقسام واختراق الأنسجة في الجسم وتدميرها وقد ينتشر فيه بصورة لا يمكن السيطرة عليها، ويعرّفه المريض "نفسيا" على أنّه حدث ضاغط وتحوّل سلبي للحياة يجب تقبله والتأقلم معه، وتارة موت لا داعي لمقاومته، وأخرى قدر لم يكن بالإمكان إيقافه، وأحيانا امتحان لا بدّ من تحدّيه، ولا زال البعض يتساءل ما إن كانت هنالك أسباب نفسية مسؤولة عن تفجيره وتطوّره.

السرطان بين النفس والجسد:
تسهم المشاعر والانفعالات السلبية كالغضب والكره والكبت وكظم الغيظ في تطوّر المرض وتعمل على زيادة هرمونات الإجهاد ما يؤثر سلبا على الجهاز المناعي ويضعفه

الحقيقة أنه لا وجود لرابط مباشر هنا بين النفس والجسد، بمعنى أنه لا يمكن القول بإمكانية تسبّب مشكلة نفسية بطريقة مباشرة في تفجير سرطان، لكن يوجد عوامل الخطر كالتدخين والتدخين السلبي والخمر والجنس غير الآمن التي قد تحفّز في العملية من خلال العادات الخاطئة التي يقع فيها الفرد من بينها ما ينتج فعلا عن مشكلات نفسية كالقلق والضغط المزمن والاكتئاب، بالإضافة إلى المعتقدات الصحية الخاطئة التي تتسبب في تفاقم المرض، كجرح يعالج باللامبالاة أو بطرق تقليدية خاطئة تؤدي إلى التهابات مزمنة تسهم هذه الأخيرة في انحراف أو تغير جيني، فضلا عمّا يحدثه المرض بحد ذاته من تغيرات نفسية تزيد من حدّة الألم لدى المريض نظرا لتركيزه على نفسيته وبالمقابل التغيرات الجسدية وتركيزه على صورة الجسد التي تؤثر سلبا على نفسيته فيصبح الوضع عبارة عن مدّ وجزر بين النفس والجسد منذ لحظة الإعلان عن التشخيص!

تسهم المشاعر والانفعالات السلبية كالغضب والكره والكبت وكظم الغيظ في تطوّر المرض وتعمل على زيادة هرمونات الإجهاد ما يؤثر سلبا على الجهاز المناعي ويضعفه خاصة وأنّه يؤدي دورا فعالا في مكافحة السرطان حسب مقال نشرته Wendy Myers "الأسباب الانفعالية للسرطان" شرحت فيه علاقة الضغط بالسرطان، فالصدمة العاطفية على سبيل المثال تؤثر على النوم العميق وإنتاج الميلاتونين في الجسم والذي يعدّ ضروريا لمنع نمو الخلايا السرطانية وأساسيا في ضبط الجهاز المناعي. كما أن الضغط يكبح جهاز المناعة بسبب ارتفاع مستوى هرمونات الإجهاد كالكورتيزول.

فاختبار الفرد لضغط عاطفي حاد ومطوّل يجعله منهكا مما يسبب إجهادا للغدة الدرقية والكظرية واستنفاذا لمستوى المعادن التي يحتاجها الجهاز المناعي للعمل، فضلا عن أن المستوى المرتفع لهرمون الإجهاد يسهم في استنفاد الأدرنالين بالجسم ما يسبب ارتفاعا للغلوكوز في الخلايا الطبيعية وهو يعمل أساسا على تحويله من الخلايا إلى طاقة للجسم؛ واستنفاده يؤدي إلى ارتفاع حاد لمستوى الغلوكوز في الخلايا، الأمر الذي لا يترك إلّا مجالا ضيقا للأوكسجين وهذا سبب من أسباب ضعف وخمول الكثير من مرضى السرطان. كما أوضحت Wendy Myres أنّ الضغط يحفّز نمو الخلايا وانتشارها بسبب ارتفاع نسبة هرمونات الإجهاد (النورإبينفرين والأدرينالين) التي تحفز خلايا الورم لإنتاج ثلاثة مركبات مسؤولة عن الانتشار. كما لا بدّ من الإشارة إلى ما جاءت به الأبحاث حول علاقة نمط الشخصية بالمرض، فيمكن لأشخاص يشتركون في سمات الشخصية وخبرات الحياة أن يستجيبوا بأعراض متشابهة ويصابوا بمرض معيّن.

النمط السلوكي (C):

أظهرت العديد من الأبحاث التي أجريت حول مرضى السرطان وجود علاقة وطيدة بين الشخصية والمرض، حيث وجد الباحثون أن مجموعة من السمات في فئة معينة من الأشخاص تؤدي إلى مرض معيّن. فعلى سبيل المثال الأشخاص الذين يعانون من كبح انفعالاتهم وعدم القدرة على التعبير عنها رغم العواطف الجياشة التي يتمتعون بها هم أشخاص يعانون من الألم النفسي، فهم لا يعبرون عن غضبهم ويميلون للكبت والهدوء والعزلة رغم مشاعر الحبّ التي تميّزهم مما يسبب لهم الاكتئاب والضغط وما يعزز لديهم الإصابة بالسرطان. يتّسم أصحاب هذا النمط بالخضوع والشعور بالذنب واليأس والتقدير المنخفض للذات والكبت فضلا عن الصبر والقناعة واللطف. إنها شخصية تبدو في غاية الطيبة لكنّها مستهدفة للإصابة بالسرطان.

الألكسيثيميا Alexithymia:

تعدّ الألكسيثيميا اضطرابا جادا يؤدي إلى المرض السيكوسوماتي، كون المريض يعاني من الكبت وغير قادر على تكوين صور في خياله ولا عن التعبير عن انفعالاته نتيجة فقر في المشاعر يعبّر عنه جسديا، فالشكوى من المشاكل الصحية عنده لا تنتهي. وترتبط الألكسيثيميا بالألم المضاعف لدى مرضى السرطان وارتفاعها يجعل الاستجابة لبعض العلاجات سلبية؛ خاصة وأن آلامهم الجسدية عادة ما تكون نتيجة معاناتهم الانفعالية.

تقول السيدة (س) في مجموعة الدعم المتبادل التي انضمت إليها بعد أن أدركت مرضها واقتنعت بضرورة المقاومة والتحدي إنّها تلقّت التشخيص كالصاعقة رغم أن الشكوك كانت متجهة نحو السرطان وقبل أن تصل إلى التعايش مع المرض الذي دفعها لمتابعة الدعم النفسي مرّت بمجموعة من المراحل يمكن تحديدها فيما يلي:

الإنكار: حالة الإنكار اللاشعوري معروفة لدى المرضى عند تلقيهم للتشخيص، فوقع الصدمة تمنع المريض من تصديق ما آل إليه وضعه وقد يعود لممارسة حياته بصورة يوحي فيها لنفسه أنّه على ما يرام ولا شيء ممّا شخّصه الأطباء صحيح، فالسيدة (س) قضت ما يقارب الأسبوع على هذا الحال وهي مقتنعة أنّ ما يحدث في ثديها مجرد طفح جلدي يحتاج مرطّبا فعّالا وعناية أكبر.

جلسات التفريغ الانفعالي مكّنتني من التعبير وتخفيف حدة القلق، قراءاتي حول مرضي وضحت لي الصورة، وتقنيات العلاج المعرفي السلوكي أدّت دورا فعالا في تحسّني
جلسات التفريغ الانفعالي مكّنتني من التعبير وتخفيف حدة القلق، قراءاتي حول مرضي وضحت لي الصورة، وتقنيات العلاج المعرفي السلوكي أدّت دورا فعالا في تحسّني

عدم التقبل: أدركت السيدة (س) أن ما تمرّ به من أزمة هو فعلا السرطان لكنها لم تكن قادرة على تقبله فلجأت إلى العلاج التقليدي والتداوي بالأعشاب ولم تستجب للعلاج الطبي، "نعم أنا مصابة بالسرطان، أعترف بذلك سوى أنّ العلاج الطبيعي سيقضي عليه". غير أن هذه العلاجات زادت الطين بلّة.

الحداد: مرّ أسبوعان وأنا على هذه الحالة تقول السيدة (س) صدّقت المصيبة وأيقنت أن تلك الأعشاب لن تفعل شيئا، نوعين من الألم عشتهما الأول كان يحدث على مستوى جسدي والأعمق كان يأكل نفسي، دخلت بعدها في فترة من العزلة والحزن الشديد والاكتئاب المختلط بالخوف والقلق والتوتر وعدم التحمل، صرت حسّاسة وهشّة، يتردّد عليّ قلق الموت والبكاء. إنّها نهاية الحياة، خوف عليّ وخوف على مصير أبنائي، ومع شدّة هذه الانفعالات السلبية كنت أحسّ بتفاقم في الألم بجسدي.

التقبل والعلاج:

بعد شهر من الحداد كان لا بدّ لي من المواجهة وتجديد حياتي بهذه الهوية فشرعت في العلاج النفسي أيضا، تأكدت أن الشفاء متوقف عليّ، فجلسات التفريغ الانفعالي مكّنتني من التعبير وتخفيف حدة القلق، قراءاتي حول مرضي وضحت لي الصورة، تقنيات العلاج المعرفي السلوكي أدّت دورا فعالا في تحسّني، ساعدتني في القضاء على أفكاري السلبية، استفدت من العلاج بالتقبل والالتزام، تصالحت مع ذاتي ومرضي، لم تعد كلمة السرطان ترعبني. منحتني النمذجة جرعة من التفاؤل، وتعرفت بفضل مجموعة الدعم المتبادل على أشخاص مثلي تشاركنا المرض والتجربة والمخاوف والمعاناة والأمل والإصرار والحلول، فضلا عن الدعم الذي تلقيته من أسرتي وأصدقائي.

صحيح أن السرطان صدمني في البداية لكني بفضله اختبرت نمطا جديدا من العيش لم أعرفه من قبل وها أنا أتعرّف على الحياة كأنّني أحظى بفرصة أخرى منها، فورشات النشاطات الترفيهية مكّنتني من التعرف على قدراتي في الرسم والكتابة والموسيقى، ومجموعة الدعم تشعرني بالحرية وتغمرني بالحبّ والرحلات التي صرت أحظى بها تجعلني أسترخي، لم يكن السرطان اختياري لكنّ الشفاء قراري. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.