شعار قسم مدونات

هل تخيلت أن تكون موظفا من غير راتب؟

BLOGS غزة

"مرزوق" وخلال مراحل دراسته الثلاثة، دوماً ما حجز مقعده في مراتب التفوق الأولى، وبمرور الزمن نما عنده الطموح، ورسم صورةً زاهيةً لمستقبله، أما رغبته فكانت بأن يكون مهندساً يُشارُ إليه بالبنان في مجتمعه، ويرفعُ من قيمة والده وأهله الذين حرموا عن أنفسهم لُقمة الطعام، وجعلوها لطفلهم حينما كان في مُقتبل العمر؛ كي لا يتأثر مستواه الدراسي بفعل الجوع والحرمان الذي عاشته العائلة على مدارِ عقودٍ من الزمن. وكعادته، أنهى "مرزوق" المرحلة الثانوية بتفوقٍ باهر، وبصعوبةٍ ولج إلى كلية الهندسة "أرفع الكليات العلمية آنذاك وأكثرها تكلفة في بلده"، وبات يقضي السنة تلو الأخرى، بدينٍ من جاره واستلافٍ من صديقه، وهكذا إلى أن انتهى من فترة الجامعة بديونٍ كثيرة تراكمت أمام ضغط الحاجة والعوز الذي تعيشه عائلته.

 

كان الطموح عنده يتخطى الديون التي تراكمت عليه، فقد كان يملك أملاً بأن شهادةَ الهندسة والتفوق فيها، سيجعله يسدد تلك الديون في أقلِ من عام بعد العمل في المجال، ولكن جاءت رياحُ غزة بما لا تشتهيه سفنه.. لم يجد العمل، ومضت سنوات عمره، وباتَ له بيتٌ وأطفال بحاجة لمصروف من والدهم "المهندس"، ولم يجد أمام ضغطهم الشديد، إلا افتتاح دكاناً صغيرةً على "قد الحال" تكفيه ذُل السؤال.. وذلك توقفت مسيرةُ أحلامه داخل مربعِ الهندسة أو في زاويتها الحادة. صادفني "مرزوق" ذات يومٍ في طريق عملي.. طأطأ رأسه خَجلاً من حاله ومهنته التي لم يعمل فيها، ويُحقق الأحلام التي رسمها لنفسه وأهله، وبادرني وأنا أنظرُ لدكانه بكلماتٍ مزقت فؤادي:

الشُغل مش عيب.. حينها أردتُ التخفيف عليه، ومن الحالةِ التي باتَ يعيشها، قلتُ له: طبعاً. الشغل بِعزة، ونيل طعام أطفالك بيدٍ عُليا خيرٌ من أن تكون يدك هي السُفلى، تطلبُ مساعدةً من هذا أو إغاثة من ذاك، فينظر لك بعين الاحتقار، إن لم يُعطِك فسوف يمزق قلبك بنظرته الدونية لك.

في كلِ بيت معالم ألمٍ باتت تسقط أمامها هيبة وظائف يعملُ فيها أصحابها، وإلا فما معنى معلم لا يجدُ ما يتناوله أطفاله على مائدة الإفطار والغداء، وماذا بعد عدم عثور طبيبٍ على علاجٍ لطفله المريض

أخبرتُ صديقي "مرزوق" أن حاله أفضلُ من غيره كثيراً، فهو على الأقل لم يعمل في مجاله لينتقل للعمل في مكانٍ آخر، كما حدث مع إعلاميٍ وصحفيٍ معروف في غزة، منذ عقدين من الزمن وزيادة.. حينما ينظرُ إليه الناس يهابون طلعته، ويتهامسون فيما بينهم عن حالته المادية "فوق الريح"، لكنهم لا يُدركون "أنه غنيٌ من التعفف"، فمهنته في العمل الإعلامي باتت لا تُوفِر له ثمن علاجٍ لطفلته أو لقمةَ خُبزٍ تُسكِتُ زقزقة بطنه الذي بات يأكله الجوع، ورغم ذلك فكونه "صحفي" يضعُ أمامه حواجز كبيرة كي يشكو حاله للآخرين وإن كانوا أشدَّ المقربين منه، كما أنه لا يتخيلُ نفسه يعملُ في مهنةٍ أخرى تُدِرُ عليه مالاً يُلبي احتياجات عائلته وأطفاله، فالتوجه لمهنةٍ اكتسبَ فيها احترامه أمام الناس، سيُلقي به على قارعة "القيل والقال"، ويكفيه أن فخامةَ مهنته سقطت أمام جوع أطفاله وآلامُ بطنه.

ليس الصحفي فقط من سقطت هيبةُ مهنته ووظيفته أمام جوعِ أطفاله، فالمعلم "كأشرف مهنة لدى الدول المحترمة"، بات لا يدري ماذا يُدَّرِس الأطفال، فمن المعلمين من بات فِكره مشغولاً خلال حصته الدراسية، في أطفاله داخل المنزل والطعام الذي سيأكلونه بعد عودتهم من مدارسهم. الطبيب كذلك الذي تحمله الدول على أكف الراحة، بات هو الآخر مضغوطاً في عمله، وبدلاً من التفكير بتطوير أدائه والتعرف على ما وصل إليه العلم في المجال الصحي والطبي، بما يعود بالنهضة والحفاظ على حياة المرضى في مجتمعه، كيف له أن يفكر في ذلك، بينما المستشفى التي يعمل فيها لا يوجد فيها أكثر من 60 في المائة من الأدوية والمستهلكات الطبية، بل يضعُ يده على قلبه خلال قيامه بإحدى العمليات الجراحية ويرجو الله ألا تتوقف الأجهزة الطبية عن العمل بفعل انقطاع التيار الكهربائي، وهو الذي لا يتقاضى إلا أقل من نصف راتبه منذ أعوامٍ طويلة، ثم تسأله عن هيبة وظيفته في البلد والمجتمع.

في غزة مع اشتداد الحصار الصهيوني وزيادة وتيرة العقوبات التي يفرضها على أهلها ويهدد بالمزيد رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، بات الحديث عن ارتفاع نسبة البطالة والعاطلين عن العمل مجرد معلومةٍ لن تُضيف شيئاً من القتامة على المشهد العام، ففي كلِ بيت معالم ألمٍ باتت تسقط أمامها هيبة وظائف يعملُ فيها أصحابها، وإلا فما معنى معلم لا يجدُ ما يتناوله أطفاله على مائدة الإفطار والغداء، وماذا بعد عدم عثور طبيبٍ على علاجٍ لطفله المريض، وكيف سيُحافظُ محامٍ يعمل في البناء بحثاً عن نقودٍ تسترُ بيته بعدما بات لا يتقاضى راتبه من المحاماة منذ عدة شهور.

في كل العالم تجدُ للوظيفةِ هيبتها وقيمتها، إلا في غزة، فقد أضحت الوظيفة مجرد حملٍ ثقيلٍ على صاحبها، وهو أمرٌ يشي بأن الأوضاع تتجه نحو الأسوأ، ليس على أهل غزة وحدهم، وإنما على كل الأطراف التي تُحاصر الأطفال والنساء وتتلذذ بمعاناتهم، وكما يقولون لا تُواجه رجلاً جائعاً مهما امتلكت من السلاح، فإن فعلت ذلك فأنت غبيٌ لن تنال سوى الهزيمة المدوية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.