شعار قسم مدونات

أمومةٌ قاحلة.. لماذا تعتقد بعض الأمهات أبناءهم ملك لهم؟!

مدونات - التربية الأطفال أم وبنت

لكل من يقرأ هذا النص الآن، أعلم ما تفكر به حين وقعت عيناك على هذا العنوان، وما هو السؤال الذي تبادر إلى ذهنك فور قرأته، حتى أعدته مرة أخرى وولجت إلى نصي هذا رغبة في الاستيضاح حول هذا العنوان الغريب الصيغة الغامض المضمون، ولكن دعني أخبرك عزيزي المطلع، كن صبورًا واستمع بقلبك لا بعقلك "أمومةٌ قاحلة".

حسناً، هذه الأمومة الفريدة من نوعها لا تشبه أي أمومةٍ على الأرض، فكيف للأمومة أن تكون قاحلة؟!، لذا دعني أخبرك وأضرب لك مثالاً صغيراً، أهناك ربيعٌ بلا زهور أم شتاءٌ بلا خيرٍ ومطر، أم هناك خريفٌ بلا أوراق أم صيفٌ بلا ثمار؟، بالطبع لا يخلو أي فصلٍ مما يميزه ويعطيه صفته واسمه، ولكن هذه الفصول الأربعة تختلف من مكانٍ لآخر ومن بيئةٍ لأخرى، فالصيف موجود بثماره ولكن في مكان وبقعة ما هناك صيفٌ بثمارٍ زقومية تنزل كالسم في جوف آكلها، وهناك شتاءٌ ولكن بمطر من نار ينزل ساخناً حارقاً ليزيد لهيب القلوب، وهناك خريفٌ لا يعقبه إلا خريف تتساقط أوراقه المنعدمة الحياة لتنبت أوراقا ميتة وفانية منذ دورتها الأولى، حتى الربيع فأزهاره أزهرت في مقبرة موحشة شوكية خشنة، تجرح القلوب وتدميها قبل أن تدمي الأيدي الناعمة الصافية.

 

لذا هكذا هي الأمومة القاحلة الجافة، هذا النوع من الأمومة الميتة لا تنبت في تربتها على الإطلاق، لا تمد جذورها أبدا حتى لا تتفرع وتحتوي صغار أوراقها، لكيلا يزهروا أو يثمروا فيلمعوا، تبغاهم أن يبقوا صغارا دائما، متكومين تحت سيقانها الخشنة لا يرون الشمس، فيذبلون ويموتون صغارا، كحال الكثيرين.. أمومة أمهاتهم لا تنبت في بيوتهم أبدا، حتى أنهم لا يجدون لفظ الأمومة لائقا بأمهاتهم؛ لأن الأمومة خصبة.. امرأة ولود متجددة مهما تعبت وضحت لا تكل ولا تمل ولا تفتأ أن تضم صغارها، وهذا على عكس حياتهم وواقعهم.

الكثير من الأشخاص لا يعرفون معنى الحب ولا يعرفون الصداقة؛ لأنهم لم يروا الحب الأول: حب العائلة والصداقة معهم وبهم، فيرون كل محبة أو مودة مكيدة

غريزة الأمومة تولد لدى المرأة حين تحمل تلك النطفة الصغيرة بداخلها، أما غريزة الأبوة فتولد لدى الرجل حين يمسك ابنه بيده لأول مرة، حين يضمه ويشمه ويقبله بين عينيه. أتساءل حقاً، هل توجد أمهات نزعت منهن غريزة الأمومة، أيكون شيء كهذا؟! أتأكل الأم صغارها حين تجوع، أتأكلهم حين تحزن وتعصف بها نوائب الدنيا، أتعلقهم من أقدامه وتدلي برؤوسهم إلى الأرض، وكلما رمتها الريح بزفرة جلدتهم وعاقبتهم، أيكون هذا؟! لماذا تعتقد الأمهات وبعض الآباء أن أبناءهم هم ملك لهم، من بقية ممتلكاتهم ومتاعهم؟ لماذا لا يستطيعون رؤيتهم ككيان مستقل عنهم، أيرونهم مجسمات صنعت لتنفيذ أوامرهم، أم مجسمات فارغة خاوية يلقون كل خوفهم وألمهم في جوفهم؟ ترى هل هناك هكذا أمومة، لا أظن. إذن، ماذا تسمى هذه الأمومة، ربما أمومة مقحلة جافة!

الكثير من الأطفال والمراهقين والشباب في العالم على حد سواء، لا يعرفون كيف تكون الأمهات أو حتى الآباء، ربما لأنهم تربوا مع فئة من ضباط الجيش الألماني، أو فئة من المعلمين أصحاب المهن الصُّناع، الكثير من الأوامر والعقاب، القليل من الأجر ولا شيء من الحب.

الكثير من الأشخاص لا يعرفون معنى الحب ولا يعرفون الصداقة؛ لأنهم لم يروا الحب الأول: حب العائلة والصداقة معهم وبهم، فيرون كل محبة أو مودة مكيدة وشبكة تنتظر أن يحط بها لتلتف عليه وتخنقه أو لتُسْلمه للعقاب بسبب ثقته البريئة هذه!، لا يعرفون الحب، يتعاملون بشك وريب مع الآخرين، لا يستطيعون رد التحية أبدا، ويخجلون من كلمة لطيفة عادية يستعملها الكثيرون في حياتهم اليومية، حتى التهنئة الصادقة النابعة من قلوبهم الصافية يرونها مجاملة خادعة ونفاقا محظ، فيتقهقرون إلى الوراء بخطوات سريعة وحذرة في الوقت ذاته، خوفا من الاعتياد على حياة الحب، يخافون البدء بهكذا حياة، حياةٌ لم يعرفوها أبدا، فيتقوقعون فارين لحياتهم المظلمة، خوفا من أن يصيبهم شيء سيء مجدداً، كأن السوء الذي يعيش ويستوطن داخلهم لا يكفيهم، يخافون من لمعة عيونهم ويخجلون من ابتسامتهم أمام المرآة.

 

اسمحوا لأطفالكم أن يصبحوا آباء وأمهات أصحاء لا يقطفون أزهار غيرهم عنوة، اسمحوا لهم أن ينهلوا من خيرات جنانكم المقفلة والموصدة الأبواب داخلكم
اسمحوا لأطفالكم أن يصبحوا آباء وأمهات أصحاء لا يقطفون أزهار غيرهم عنوة، اسمحوا لهم أن ينهلوا من خيرات جنانكم المقفلة والموصدة الأبواب داخلكم
 

هكذا هم ساكنو مملكة الأمومة القاحلة، ولكن لأن لكل قاعدة شواذ، سترى أحدهم يتمرد على نفسهم لا على أمه أو عائلته، فيغدو فردا حسنا، يرقص ويمرح أمام الجمع ويعيش ككائن عادي اجتماعي، يؤسس لنفسه حياة بعيدة عن حياة مملكته الأم، لطيف الجانب رقيق القلب، لربما تكون فتاة فتغدو أماً كالعنقاء، تحيا من رمادها أو أبُ فاتح لا يخاف أبدا، ولكن بعد كل حفلة أو مجاملة أو ابتسامة ستجده يغلق على نفسه بغرفة مظلمة؛ ليجلد نفسه بسوط أمه وأبيه، يحاول بكل ضربة ترتد على جسده وظهره العاري أن يهدم ذاك الفراغ المليء بالدخان الأسود ليبدده وينثره كأنه لم يكن، حتى لو تطلب منه أن يبقى بنصف جسد بأساسات قليلة، ولكن سليمة قدر الإمكان.. سليمة إلى حد ما، تهتز مع الريح.. مع كل ورقة تسقط ومع كل قطرة مطرٍ ساخنة تهطل على رأسه، مع كل زهرة سوداء محاطة بالأشواك، مع كل ثمرة صيفية تخرج.. وكأنها تخرج من رؤوس الشياطين، تلك الفصول لن ترأف به وبحاله أبدا، لأنه غريب قادم من صحراء الأمومة القاحلة.

إلى كل أبٍ وأمٍ يقرأ نصي الحزين هذا، أرجوكم اقرأوه بتمعن.. مرةً أخرى لربما تستيقظون من سباتكم العميق، لتروا كم أن شمس أطفالكم منطفئة، كم هي رمادية.. كم أن ربيعهم ذابل لا يزهر، ربما ترون أو تلمسون قلوبهم الخائفة الواجفة، لربما تخرجون ذاك الطفل الجالس بتلك الزاوية المظلمة، لربما تأخذكم الرأفة فتمدون أيديكم لهم؛ لتخرجوهم إلى النور، ليركضوا نحو الدنيا بأيد مفتوحة وبقلوبٍ قوية تسيل حباً لا خوفاً، ليطيروا ويحلقوا بأجنحتهم الصغيرة نحو السماء، يرسمون طريقهم بنصائحكم لا بأوامركم.. بمحبتكم لا خوفاً من عقابكم.

اسمحوا لهم أن يصبحوا آباء وأمهات أصحاء لا يقطفون أزهار غيرهم عنوة، اسمحوا لهم أن ينهلوا من خيرات جنانكم المقفلة والموصدة الأبواب داخلكم.. أزهروا ولا تبخسوا؛ ليزهروا هم أيضا وليمتد أثرهم وأثركم، وليصبحوا جنةً يستريح بظلها الغادي والرائح.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.