شعار قسم مدونات

ما بعد السّلفية.. محنة التفكير وامتحان الوطنية!

BLOGS السلفية

أثارت تصريحات وزير الشؤون الدينية الجزائري جدلا في الأوساط الفكرية بسبب موقفه من الدّعوة السّلفية، إذ اعتبارها بمثابة امتداد غريب على المجتمع الجزائري، ممّا خلق نزعة تفوح منها رائحة الإقصاء والتهميش، سبّب هذا الوضع حرجا لبعض الرموز التي كان لها السّبق بمنهج الدعوة السّلفية، موضوعنا في هذا المقال هو البحث في مآلات الدّعوة السّلفية، وما مدى قدرتها على الانخراط في ركب سيرورة المجتمعات العربية، كما أننا سنخوض في مكونات الخلاف النّاجم عن مختلف تياراتها، كي نصل في نهاية المقال إلى المقاربة الفعلية للواقع الجزائري المعاصر.

لم تستطع السّلفية أن تحافظ على الزخم الذي حاب دعوتها، فقد تعرضت للانقسام والتفرقة، حالها كحال العديد من الحركات الإسلامية، أولى بوادر الخلاف ظهرت بعد أزمة الخليج 1990، يومها أفتى الشيخ بن باز مكرها بجواز الاستعانة بالقوات الأمريكية، الأمر الذي خالفه فيه الشيخ ناصر الدين الألباني، لقد شكل منعرج حرب الخليج سؤالا جوهريا حول علاقة هذا التيّار بالمرجعية التّاريخية، وما مدى مرونته على التكيف مع واقع الدّولة الحديثة، كما أنّ الحرب تلك كشفت بعض الأصوات داخل المجمع السلفي والتي كانت تتماشى في فكرها مع الشيوخ، من بينها محمد أمان الجامي وربيع بن هادي المدخلي، اللذان قادا حملة ردود ضد سفر الحوالي وسلمان العودة وعبد الرحمن عبد الخالق، ما جعل الهوّة تزداد يوما بعد يوم، ومع موت الشيوخ فإنّ الفجوة تلك اتسعت لأداء العديد من المشايخ وطلبة العلم، قاد الحراك ربيع بن هادي المدخلي، والذي تزعم باب الجرح والتعديل، أحد أهم ركائز علوم الدّين ليقدم صورة معينة للفكرة السّلفية. إنّ أهم ما يميز هذا التيّار بوصفه مدخلي، هو القواعد التي أحاط بها الذّات الممتحنة، مخالفا بذلك المذهب السّلفي، والذي اشتهر في فترة الشيوخ بوصفه وسطية معتدلة، سنذكر أهم النّقاط التي رسمت حدود مملكة الممتحنة، متجاوزين التفصيل فيها والتحليل الذي امتلأت كرسات الردود بها.

1- الاهتمام بالجرح والتعديل، وذلك بتقديم شيوخهم عن علماء الإسلام.
2- بدعة الامتحان، وهي أن يُمتحن النّاس بالأشخاص، كقول أحدهم هل تحب ابن تيمية، فإن أجاب بلا فهو مبتدع.
3- تقديسهم لإمامة ربيع بن هادي المدخلي، يشتهر تيار المداخلة بتقديمهم الشيخ ربيع عن سائر أعلام السّلفية، وذلك عن طريق وصفه بإمام الجرح والتعديل.
4- الغلو في التبديع، وهنا وجب الإشارة إلى جواب الشيخ السّحيمي عندما سأل عن حال أحدهم، فأجاب أنّ أهل المغرب منشغلين بالجرح، وقال فلان وفلان، كما أنّ الشيخ ناصر الدين الألباني عندما سأل عن طريقة الجرح لدى الشيخ ربيع قال، إنّ به شدة، ويلزمه بعض اللين.

5- إن لم تكن معي فأنت ضدي، وهي سبب البلوى التي يطوف بها كثير من الشباب السّلفي، فهذه القاعدة منعت أخذ العلم عن أي شيخ بمجرد إسقاطه من طرف المداخلة. لا يلزمني، نكاية بالشيخ حسن حلبي أسّس المداخلة لهم هذه التسمية استهزاء بالمخالفين لهم، ووسمهم بها.

6- بدعة الموازنة: وهي ذكر محاسن الرّجال استحبابا، وعدم التستر عليها وجوبا.

لم تتمكن السّلفية بالجزائر من كسر التبعية للمشرق وإعادة نشر إرثها الباديسي، والاهتمام بمخالفات الاستعمار كقضية الحركي، والدفاع عن مكتسبات الثورة ومتطلبات الشعوب

لقد أثرت هذه القواعد في المنهج العلمي للدعوة السّلفية، مما أدخل الممتحنة وهو التيار المستوطن بها، في خلاف عقيم مع كبار شيوخ الوسطية، من جملة المسائل التي تم الاختلاف عليها.
1- سنّة الهجر: حيث قدّمت السّلفية الممتحنة نفسها كتيّار يقود الدّعوة نحو الإصلاح، مما يخوّلها أحقية الدّفاع عليه دون الرّجوع إلى أهل الاختصاص.

2- العمل السياسي: إلى يومنا هذا يرى المداخلة أنّ مزاحمة الحاكم في الملك بتأسيس الأحزاب السياسية، هو أصل كل شر تمر به الأمّة الإسلامية، متناسين بذلك الكم الهائل من الفتاوى التي صدرت عن الشيخين بجواز العمل السياسي، والتي استعان بها الشيخ عبد المالك رمضان في كتابه مدارك النظر، للرد على الحزبيين كما يصفهم، كما أنّ الممتحنة يقدمون في هذا الباب العلمانية على الحركات الأصولية، بزعم أنّ الثانية أشدّ على أهل الإسلام من أهل الكفر.

 

كما هو الحال في الثورة الليبية، وردود الألباني في ذلك كافية، فقد فرق الألباني كون العمل السياسي يقع تحت طائلة المنهج، الذي يوازي المعتقد الصحيح، لذلك كان كلما سأل عن سلمان العودة وعبد الرحمن عبد الخالق، يقول إنّ عقيدتهم صحيحة، وهم يخالفوننا في المنهج، إلا أنّ الشيخ بن باز لا يرى بهذا القول، فالعقيدة عنده هي المنهج، ولكنه لم يحضر العمل السياسي، عكس السّلفية الممتحنة الذين منعوا أي اهتمام بالعمل الحزبي حتى ولو كان بالجمعيات مثلا.

3- الاهتمام بقضية المظاهرات: وحملها على محمل الأصول، وإن أقرها الحاكم وأمر بها في قوانينه. وللعودة إلى أصل الشيء، فإنّ السّلفية واجهت تحوّلا جذريا في خطابها، وذلك على فترتين هما:

أ- ما بعد الشيوخ: حيث البحث عن المرجعية قائم على مبدأ المتابعة للتيار السّلفي، من دون الاستناد إلى الإرث التاريخي الصّادر عن المدرسة التيمية. لقد نجحت الممتحنة من استصدار حكم يسلب التفكير خصوصيته، الوضع الذي ساهم في تجسيد رؤية دينية أحادية ذات أقلية مدخلية، حيث أصبح ربيع المدخلي، أهم رؤوس السّلفية الذين يقومون بتزكية الشيوخ، وهذا هو الملاحظ على الصعيد المحلي، ففركوس الذي قال عنه الشيخ عبد المحسن أنه رجل سنة، لا يتوان لحظة في متابعة التزكية المدخلية، كما أنّ الشيخ عبد المالك رمضان والذي كانت له الريادة في ردع الجبهة، أسقط بمجرد تزكيته لأبي إسحاق الحويني. على هذا الأساس بنت الممتحنة مذهبها بعد موت الشيوخ على شخصية متفردة بالقول الفصل، دون مراعاة للعقود الطويلة من البحث.

ب- ما بعد الربيع العربي: لقد تسببت الثورات العربية في ظهور أصوات من المجمع السّلفي تساند هذا الحراك، غالبية تلك الشّخصيات ممن كانوا يرون بالعمل السياسي كمنهج لا يخالف اعتقادهم، ومع الهدوء الذي تشكل عقب فوز الحركات الإسلامية في الدورات الانتخابية، بدأت عملية توزيع الأدوار والبحث عن منافذ للتشهير، كالنّصح لولاة الأمور والدعوة لهم. كان الشيخ رسلان مثلا أحد أهم الأصوات الإذاعية اللاذعة، وبعد الانقلاب الذي سجّل فشله في تجسيد المواطنة، فإنّ تلك الأصوات بمجملها توجهت لنقد كل ما له صلة بالربيع العربي وتخوينه، من أجل تأسيس حالة غير اعتيادية للحاكمية الجديدة، والتي من شأنها أن توجه الخطاب السياسي "انتو شعب وحنا شعب".

السّلفية اليوم تواجه معضلة زمانية، حول المفاهيم التي اعتمدتها في تصانيفها الشرعية، تلك الهالة التي نجمت عن التزكية بجعل الفركوسية أبوة ذات مقام يصعب نقدها
السّلفية اليوم تواجه معضلة زمانية، حول المفاهيم التي اعتمدتها في تصانيفها الشرعية، تلك الهالة التي نجمت عن التزكية بجعل الفركوسية أبوة ذات مقام يصعب نقدها
 

إنّ السّاحة الجزائرية لم تخلو كذلك من تلك الإرهاصات، فقد كان للشيخ السنيقرة والذي بقي منشغلا بتبديع حملة "خليها تصدى"، أصبح له توجه تتجسد فيه النّزعة الشرقية، حيث بد المشهد السّلفي داخل الجمهورية مترهلا، بانتظار تزكية مشرقية يشرف عليها دعاة الإقصاء، فبعد إزاحة عبد الحكيم وزين العابدين والعيد وعبد المالك رمضان، بقي يتصدر المشهد السّلفي بالجزائر الشيخ فركوس، مع حالة التّابع الذي يخضع لسلطة التزكية المدخلية، دون الاهتمام بجدوى الفتوى أو المعرفة المنبثقة عن المشيخة، إذ القليل منهم يعرف عناوانين الكتب الصادرة عن ربيع الذي هو بمثابة صومعة الممتحنة، لقد نجح المداخلة في بسط نفوذهم على رؤوس مشايخ السّلفية الذين الزموا الصمت فترة المحنة التي مرت على الأمة، إذ ساهمت عملية ترويج التزكية داخل قواعدها، إلى خلق نوع خطير من التبعية التي تتجاوز أطر الوطنية والدّولة، ظل الشباب السّلفي يسافر إلى دماج باليمن ويزور المدينة المنورة رغبة منه في ملاقاة الشيخ ربيع فحسب.

 

لم تتمكن السّلفية بالجزائر من كسر التبعية للمشرق وإعادة نشر إرثها الباديسي، والاهتمام بمخالفات الاستعمار كقضية الحركي، والدفاع عن مكتسبات الثورة ومتطلبات الشعوب وتقديم حلول وطنية لتعريفات الهوية ومقتضيات الديمقراطية، بل ظلت حبيسة أقبية المخابر ووكالات التوظيف العالمية، إنّ ما نشاهده اليوم من هذا الوضع المتأزم لابد أن يدفع الجميع داخل المجمع السّلفي للبحث عن سبيل للخروج بمركزية وطنية، منبثقة من واجبها الأخلاقي الديني.

إنّ السّلفية اليوم تواجه معضلة زمانية، حول المفاهيم التي اعتمدتها في تصانيفها الشرعية، تلك الهالة التي نجمت عن التزكية بجعل الفركوسية أبوة ذات مقام يصعب نقدها، في حين يرد قول الشيخان على عجل، إنّما هي نتيجة حتمية للقاعدة الصفرية التي يدعمها رسلان في خطبه الجمعية المطولة/الصراخ، بينما المدارس العلمية للسّلفية يراد لها الاندثار الإعلامي، حيث المعرفة تجد لها ضوابط راسخة قابلة للنقد، الباديسيون الجدد.

وبعيدا عن التقسيم الحركي، نشهد اليوم تفكيكا خطيرا من طرف أصوات إذاعية داخل المجمع السّلفي، تجعل من خطابات السّلطة المتغلبة، عقيدة وجب اتباعها، ومنهجا كل من خالفه فهو ضمن لائحة الاتهام، تبعا للغة التي تكتب في دوائر المخابرات العالمية، فهل يمكن للسّلفية أن تتجاوز المحنة التي أصابتها من الداخل جراء اتساع رقعتها العقائدية؟ 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.