شعار قسم مدونات

فرويد ونيتشه وماركس.. هكذا دفنوا الفلسفة التقليدية

blogs فرويد ونيتشه وماركس

لقد مرّ الفكر الغربي بمراحل عديدة على مرّ التاريخ. وقد طُبِعَتْ كل حقبة تاريخية بأسماء كبيرة كان لها بالغ الأثر في تكوين الحضارتين الغربية والإنسانية معًا. ولا يمكننا أن نذكر الفكر والفلسفة دون العودة إلى البلاد الإغريقية حيث بدأ التفلسف كحقل معرفي شاملٍ ومتنزّه عن الأغراض الدنيوية المباشرة، ولا يسعى إلا لخدمة الحقّ والخير والجمال، ولا يساير هوى أو سلطان أو شهوة على حساب الغايات السامية التي نذر نفسه من أجلها.

 

على أن الإغريق، وإن كانوا هم السبّاقين في ميدان الفكر، وإن كان الفضل الكبير يرجع إليهم في تأسيس الفلسفة كما نعرفها اليوم، وفي طرح المسائل الوجودية الكبرى في منهج وطيد الأركان، قوي البنيان، فإنهم قد غرفوا من حضارات الأقدمين الذين سبقوهم. فالتاريخ قد سجّل رحلات غير واحد من الفلاسفة والحكماء الإغريقيين إلى مصر الفراعنة، مهد حضارة مشرقة وثقافة عظيمة. واليونانيون ما كان لهم أن يدوّنوا شيئا من إبداعاتهم الفكرية والثقافية لولا الأبجدية التي أخذوها عن الشعب الفينيقي السامي.

 

وطوال العصور التي تبعت فلاسفة الإغريق الكبار، ظلّ الفكر في العالم ككل عيالًا على سقراط وأفلاطون وأرسطو وأصحابهم وأتباعهم. ولا بد لنا أن نشير إلى أن أرسطو يتمتّع بمكانة سامقة في الفلسفة الإسلامية التي أطلقت عليه لقب "المعلّم الأول". في حين أن "المعلّم الثاني" كان الفيلسوف المسلم "الفارابي"، صاحب الكتاب الشهير "آراء أهل المدينة الفاضلة". ناقش الفلاسفة المسلمون الفلسفة الإغريقية، ولكنهم أبقوا على منهجها كما هو، رغم اجتهاداتهم وإضافاتهم العظيمة.

 

فرويد غاص عميقًا في النفس، فغرق فيها، واجتهد في تفسير دوافعها، فأنتج منظومة جديدة ومنهجًا لا يصمد أمام ناقدٍ مزوَّدٍ بأدوات معرفية تبطل ما جاء به

وفي العالم الغربي في القرون الوسطى وحتى مرحلة متأخرّة من العصور الحديثة، ظلت الفلسفة الإغريقية، التي وصلت إلى أوروبا عبر المسلمين، ظلّت هي المهيمنة على عالم الفكر، وهي الباب الذي وجب ولوجه على كل من أراد التفلسف.

 

أما في زمن ما بعد الثورة الصناعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بعد الميلاد، فإن الظروف كانت قد أصبحت مهيّأة لظهور فلاسفة ومفكّرين استطاعوا أن يتجاوزوا المنهج الفلسفي الإغريقي بأشواط. وذهبوا أبعد من ذلك: إنّهم أعملوا معاولهم دكًّا في كل البنيان الفلسفي القديم، وخلقوا منهجًا فلسفيًا جديدا كان له بالغ الأثر على الحركة الثقافية، بكل شموليتها، في كل أنحاء الأرض. من هؤلاء، هناك ثلاث أسماء أثّرت بالغ الأثر على فكرنا المعاصر: سيغموند فرويد، وفريديرك نيتشه، وكارل ماركس. تجمع بين الثلاثة الهوية الجرمانية، وبين الأول والأخير الخلفية اليهودية.

 

فرويد غاص عميقًا في النفس، فغرق فيها، واجتهد في تفسير دوافعها، فأنتج منظومة جديدة ومنهجًا لا يصمد أمام ناقدٍ مزوَّدٍ بأدوات معرفية تبطل ما جاء به، رغم الإغراء الكبير في قدرته الإقناعية، ورغم الخطاب المتماسك لمنهجه. وهو يُعْتَبَرُ الأب المؤسس للتحليل النفسي الحديث. وقد كانت له اجتهادات في اتجاه إبطال الخرافات والأساطير التي علقت بالتراث التوراتي، والتي ساهم في ترسيخها أحبار اليهود عبر العصور.

 

نحن أمام ثلاث أسماء أثّروا عميقا في الفكر المعاصر، ولكننا يجب أن نخضعهم لميزان النقد العميق، وألا يغرّنا تبحّرهم الكبير
نحن أمام ثلاث أسماء أثّروا عميقا في الفكر المعاصر، ولكننا يجب أن نخضعهم لميزان النقد العميق، وألا يغرّنا تبحّرهم الكبير
 

نيتشه كان عبقريًا حقيقيًا، ورجلًا رؤيويًا، ولكنه فعل في النهاية كما يفعل الانتحاريون المتطرفون في هذه الأيام: فجّر الحزام الناسف الذي راح هو ضحيته في البداية، ثم أخذ من حوله (وهذا ما يضفي عليه سحرا لا يُقَاوَم). لا يملك من يقرأ نيتشه إلا أن يُبْهَرَ بعبقريته الخالصة التي أخذته في اتجاه تهافتٍ تحوَّلَ جنونًا محضًا. يشفع له صدقه ونقاؤه الشخصي ووداعته كإنسان (وحتى هشاشته)، وكأنّ اللاوعي هو الذي دفعه إلى التطرف في تمجيد القوة (كتعويض عن فشله الشخصي).

 

أما ماركس، فهو عبقري آخر بدوره. ولكن خطيئته القاتلة، في منهجه الديالكتيكي الانيق والجذاب، والذي اقتبسه من هيغل، خطيئته كانت تفسيره الانسان تحت مجهر الاقتصاد والمادة والمال فقط. إنه أهمل العوامل النفسية والبُنَى الاجتماعية والتَّرَوْحُن في صيرورة الإنسان وفي سيرورته. لا شكّ أن نظامه المعرفي أنيق وجذّاب وباذخ، ولكنه متهافت تمامًا كتهافت البرجوازية التي فضح أبو "الرأسمال" تفاهتها.

 

نحن أمام ثلاث أسماء أثّروا عميقا في الفكر المعاصر، ولكننا يجب أن نخضعهم لميزان النقد العميق، وألا يغرّنا تبحّرهم الكبير.. واحد شوّه النفس البشرية، وعبقري محض أخذ العقل البشري إلى الجنون، ومفكّرٌ عظيمٌ أصاب في تشخيص داءٍ اجتماعي معضل فاختزل كل المصائب والأمراض فيه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.