شعار قسم مدونات

لم يَسأَم قَلبِي مِن فَرطِ الانتظار!

blogs الدعاء

"هكذا هي أحلامُنا.. حلمٌ يتحققْ… وحلمٌ يتعثّر.. وتبقى أحلامُنا قيدَ الانتظار!"
– أحلام مستغانمي

لرُبما لا يُدرِكُ من هم في سنّ المراهقة أنّ الثقة بالله تولّدُ المستحيل وتزرعهُ ولو كان في أعماقِ الأرض ليُصبِح زهرةً يُزهِرُ بِها قلبُ الواثِق بالله تعالى وترسُمُ البسمة على ثغرِه طوال حياته. لكنّه سيدرِكُ ذلكَ في مرحلة من مراحِل عمره القادمة، وهذا كان حال قلبِها هي. لم يتجاوز عمرُها الثامنة عشر عندما أحبّته، وكان حالُها كحال من تكون في سنّها فتاة حالمة عاشقة جعلها الحبّ لا تدرِك الصواب من الخطأ على عكس من أحبّت ففور معرفته بأنّها تذوب فيه عشقًا ابتعد واختفى كاختفاء هلالٍ بين سُحب الشّتاء. فاتعبها البعد وأصبح حالُها كليالي الشتاء القارس، مشتتة الفكر، ممزقة القلبِ كحالِ الغريق في كل لحظة تمرّ ينفذُ منها الأكسجين دون مسعف أو منقذ، ومن غيره ينقِذها ممّا هي فيه سبحانه جلّ في علاه؟ لكنّها لا تدرِك ذلك بعد.

وفي ذات صباح قرّرت أن تُلملِم شتات نفسِها وتستعيد روحها المرِحة وتعيش بسعادة، لتدفن حبّها إلى زمن غير معلوم. وشاء القدر أن يختبِر تلك القوة الّتي أظهرتها فجأة ليظهر أمامها وفي منزِلها ذاك الهلال الّذي كانت تتناساه وتُبعِدُ تفكيرها عنه قدر ما تستطيع، فلم يكنُ منها إلاّ أن اطبقتِ الصدمة على ملامحِها وحوّلت بياض وجهِها إلى لونٍ أصفر شاحب وشفتاها إلى لونٍ أزرقٍ كمن نفذ منه الأكسجين ويحتضر على فراش الموت، ومع كلّ هذا تجاهلته وكأن رأت شخصًا غريبًا لم تعرفُه من قبل ولم تُغرَم به يومًا اكتفت بإلقاء السّلام وغادرت إلى غرفتِها وما هي لحظات حتّى غادر الهلال منزِلها في صدمة لطريقة تجاهلها له جعلت كلّ في المنزل يستغربون ويتساءلون عن السبب.

بعد رحيله أحست بتأنيب الضمير ألاّ يجوز استقبال ضيف مهما كانت كمية الحقد الّتي في قلبنا اتجاه بتجاهلٍ ووجهٍ عبوس، ففكرت بطريقةٍ للاعتذار منه وحفظ كرامتها في نفس الوقت، اتصلت به واخبرته أن يسامحها على ما بدر منها وأنه لم يكن من اللائق معاملة ضيف كما فعلت معه لكنّها لو صادفتهُ في الخارج فلا ينتظر منها تصرفٌ غيره وانتهت المكالمة.

لم تسأم ولم تكف عن القيام بشتى العبادات من صيام وقيام وتضرع وصلاة حاجة فقط ليرزقها الله حبّه، وكلّها ثقة بأن يجئ يومٌ ويقرعُ فيها باب بيتِها كما قرع باب قلبِها دون استئذان

مرت سنة وانتقلت إلى الجامعة وتغيّرت شخصيتها وهيئتُها تمامًا، اصبحت فتاة ملتزمة قليلة المزاح منطوية على نفسِها بعد أن افترقت عن أقرب صديقةٍ لها لاختيار كلّ منهما تخصصًا مختلفًا عن الأخرى. وبالرغم من طول المدّة الّتي مضت إلاّ أنّ قلبَها مازال ينبضُ باسمه وعيناها لا ترى غيره، وفي كلّ جلسة يذكر فيها الحب كانت صورته تُرتسم بين عيناها فتلمع وتبتسم شفتاها ابتسامة حب وخجل.

 

لكنّها أدركت خلال هذه المدة أنّ الله وحده القادر على جعلِه من نصيبِها فتوجّهت بالدّعاء إليه أناء الليل وأطراف النّهار بأن يجعله زوجًا لها ويرزُقها حبّه، تهمس في كل سجود في اذن الارض باسمه وترفع يداها في كل ركعة أن يرزُقها إياه، واثقةً تمام الثقة بأن سيأتي ذاك اليوم لا محال ليطلبها للزّواج، ثقةٌ غريبة قد تجعل من يسمعُها يظنّها غرورًا.

مرّت أربعُ سنواتٍ لم تكف فيها عن الدّعاء والتضرع لله تعالى باكيةً في سجودِها، تقومُ اللّيل وتعانق السماء راجية منه جلّ في علاه أن يجعله دعوةً مستجابة، لم تسأم ولم تكف عن القيام بشتى العبادات من صيام وقيام وتضرع وصلاة حاجة فقط ليرزقها الله حبّه، وكلّها ثقة بأن يجئ يومٌ ويقرعُ فيها باب بيتِها كما قرع باب قلبِها دون استئذان، فكان كلّ من يراها على هذا الحال يتعجب لما كلّ هذا الزهد والإخلاص في العبادة أن ما الإثم الكبير الذي اقترفته ليُصبِح هذا حالُها، غير مدركين أنّها ادركت بأنّ الله وحده من بيدِه جعلُ المستحيل ممكِنًا لقوله تعالى في سورة يس: "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ" (82).

قد يَسأمُ مريض السرطان من شفائه ويفقد الأمل، لكنّ قلبَها لم يسأم فرط انتظار ما يقارب ستة سنوات من العناء ولم يفقد الأمل ولو لمرّة، ففي خِضم كلّ هذه السنوات الّتي مرّت كانت ثقتُها بالله تعالى تفوق كلّ طَرَقاتِ اليأس الّتي تطرقُ بابها وما تسمعه عنه من أخبار، إلى أن جاء اليوم الموعود يومَ قُذِفت أحزانُها بعيدًا ونثرت السعادة ربيعها من جديد، فسكنتِ البهجةٌ قلبها فلم تسعِ السماء فرحتها فكيف لقلبِها أن يسعها، سجدت لله شاكرةً إياه أن الحمد لله الّذي جعلكَ لــي دعوةً مستجابة ولم يُرجعني من الخائبين المكسورين.

وفي الأخير، قد يظنّها البعض قصّة خيالية كما هو حال الروايات، مثلما قد يجِد البعض أنفُسهُم بين السطور ربما في جملةٍ أو مشهد، لكنّ هنالِك ما سيشترِكُ فيه كلّ من قرأ هذه السّطور أنّ الثقة بالله وحدها والقرب منه والابتعاد عن المعاصي هو ما يجعل دعواتِنا مستجابةً وإن ظنّها البعضُ مستحيلة، يكفي أن نؤمِن نحن بها لتكون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.