شعار قسم مدونات

رواية "مُذكُّرات دَجاجَة".. تمثيل للقيم المُثلى على لسان دجاجة!

BLOGS مذكرات دجاجة

عُرف الأدب الترميزي قديماً وحديثاً بعدم الكشف فيما يود توصليه من أفكار وحيثيات وذلك لأسباب عديدة يرجع منها إلى ما هو سياسي ويتعلق بالكاتب، وبعضها إلى ما هو شخصي ويتعلق بالقارئ أو المتلقي بغية اسنفار همته لحل شفرات هذه الرموز والغوص وراء مكنوناتها الدلالية وما تود توصليه للآخرين. ورواية "مذكرات دجاجة" جاءت من هذا النوع من الأدب القائم على الترميز، وهي في تمرير حمولاتها ودلالتها الفلسفية جاءت عبارة عن مذكرات تحكي الدجاجة فيها عن يومياتها منذ انتقلت من البادية إلى بيتها الجديد في المدينة وتأقلمها مع هذه الحياة، ليبدأ بعدها صدام مع القيم الفطرية التي جاءت مُحَملة بها من البادية مع ما هو مدني وحضري.

وقصة هذه الرواية من بداتها إلى نهايتها تحاول فيها الدجاجة توصيل أهم شيء في هذه الحياة، وهو الحب بمختلف أنواعه وتجلياته، بدأً بالحب الذي يكون بين الأزواج كما كان بينها وبين زوجها الديك، والحب الذي يكون بين الآخرين سواء تمثلوا في الأقرباء كما كان بينها وبين أترابهن (الدجاجات) الأخريات، أو تمثلوا في أطياف المجتمع بكل أنواعه كما كان بينها وبين الغريبة التي جاءت إلى العيش معهم، وبينها وبين أولاد إحدى أترابها التي ماتت وخلفت وراءها صغارا في ماسة إلى من يعتني بهم وينمي فيهم الخصال الحميدة ليكونوا هم بعد ذلك حاملي هذا المشعال، وينتقل هذا الحب أثناء مسيرة حياتها لِيُكوِّن بذلك لها عقيدةً راسخةً في حب المثل والقيم النبيلة العليا، والدفاع عنها بل ونشرها بكل ما تميزت به من حكمة ونباهة عن غيرها من الأتراب.

وأثناء عيشها مع زوجها وباقي الأتراب تلفت انتباهنا من خلال ظاهرة الطقس ببرودتها وحرارتها إلى أن الحياة تعتريها أوقات طيبة يملؤها الحب والحنان والسكينة أحيانا، وأحيانا تكفهر في وجه الانسان فلا يرى فيها إلا الضجر والقنوط، إلا أنه ما يفتأُ حتى يزول ويعود الأمر إلى طبيعته حيث السكينة والحب، ولكن هذه السكينة ومن خلال حفل أقيم بين الزوج وباقي الأتراب حيث ظنوا أنهم في مأمن وأمان ولا يُنغص عليهم أحد هذا الأمن والاستقرار، ظهر عدو أوشك على الانقضاض على أزواجه لولى بسالة هذا الزوج الذي أظهر عن شجاعة وقوة مكنته من الدفاع والذود عن حماه وعشيرته رغم الجراح التي ألزمته الفراش، لِتُنبهنا بذلك إلى أن الأنسان في حياته رغم الاستقرار الذي قد يبدوا له فهو معرض للخطر الذي قد يكون سببا في حرامانه من أحب وأقرب شيء إليه.

الرواية للكاتب الفلسطيني اسحق موسى الحسيني الذي يعتبر واحداً من أهم الأسماء الروائية التي عرفتها الساحة الثقافية الفلسطينية، وهي رغم صغر حجمها جاءت في طياتها مملوءة بالقيم والمبادئ السامية

وأثناء هذه الحادثة سَتُظهر لنا هذه الدجاجة وفي صورة ذكية طبيعة المخلوقات وتنوعها من شخص لآخر، وإعزاء هذه الطبائع وتنوعها إلى طبيعة الحياة التي يحياها الخلق في المجتمع، والمتمثلة في الكذب، والحسد، والنفاق، والخيانة.. فالمجتمع المتسم بهذه الصفات حتماً ستنتقل إلى أفراده ويتوارثوها إذا لم يتم القضاء عليها بما هو يتماشى مع القيم العليا القائمة على العدل والمساواة، وكل ذلك أوصلته لنا أثناء الليلية التي كانوا يعالجون فيها الزوج من جراء ما أصابه من الجروح، حيث أسفرت هذه الليلة عن التنوع والاختلاف التي اتسمت به كل ترب عن أخرى، وستتخذ هذه الطبائع بين الأتراب منحى آخر في الحياة في محوالة إظهار الصراع القائم بين الحق والباطل والخير والشر، ومبادرة هذه الدجاجة بإصلاح هذه الطبائع الفاسدة وحل محلها الطبائع السامية، كل ذلك لتنبيهنا إلى أن الطبائع الفاسدة مهما تصارعت مع ما هو حقي وخيري فيمكن القضاء عليها بما هو أصلح ويتماشى مع الفطرة السليمة للإنسان.

مات الزوج عمود البيت وحامي الحمى لتنطلق بها مرحلة أخرى من حياة الدجاجة وأترابها حيث حياتهم أصبحت معرضة للخطر، وكل الحمل ملقىً على عاتقها لإصلاح طبائع أترابها وعدم التعرض للأخطار المحتملة من الأعداء، وهو ما حاولت فعله من إلقاء موعظةٍ عليهن غرست من خلالها فيهن قيمة الحب في الحياة ودوره في إبقاء هذه الأتراب مجتمعات، لتكون بذلك إشارة لنا على أنه ينبغي أن نبقى أو بالأحرى أن نكون مجتمعين فيما بيننا يجمعنا الحب والوفاء كي نتغلب بهذا الجمع على الصعوبات والمعيقات الطارئة في الحياة، ولا بقاء لنا مجتمعين إن لم تكن القيم العليا هي التي من يجمعنا، فما إن تمشي هذه القيم حتما سنتعرض للتفرقة الذي سيكون سبباً في تعريضنا للأخطار المحدقة بنا، وهو ما مثلته الدجاجة في مهاجمة أحد العمالقة وقتل كل الأتراب حيث لم يبق الا هي وصغائر احدى أترابها التي أنقذتهم من الموت أيضا.

وفي وقفة التفاتيةٍ من الدجاجة إلى واقع المجتمع المعاش، حيث هناك من يعيش من الأسر الفقر والشقاء ويحتاج إلى مساعدة كي يسود في المجتمع حب مساعدة الآخرين وتقديم المساعدة ما استطاع الانسان أن يساعد به، ولو تمثل في غرس القيم النبيلة بين هذه الأسر المحتاجة، وجاء كل هذا من الدجاجة على شكل حوار دار بينها وبين غريب جاء من فصيلتهن يشكو حاله وما يمر به من ضنك العيش وكل أشكال وأنواع الحرمان، إلى تقديم المساعدة لأسرة هذه الغريبة وتعليمها مبادئ الخير والعدل لتكون بعدها هي من ينشر هذه الفضائل بين أسرتها. 

والرواية للكاتب الفلسطيني اسحق موسى الحسيني (1905-1991م) الذي يعتبر واحداً من أهم الأسماء الروائية التي عرفتها الساحة الثقافية الفلسطينية، وهي رغم صغر حجمها جاءت في طياتها مملوءة بالقيم والمبادئ السامية التي افتقدناها كثيرا في حياتنا، كيف لا تكون كذلك وهي أحدثت ضجة كبيرة بين النقاد حيث ربطها البعض بالأبعاد الإنسانية، وربطها البعض الآخر بالقضية الفلسطينية في محاولة من الكاتب إلى التطبيع بين الكيان الإسرائيلي إذ تزامنت حياة الكاتب بالاحتلال لفلسطين، ويفسرون هذا من خلال آخر الرواية حيث خرجت الدجاة من بيتها واستسلامها للغريبات، وفض ثورة الزعيم ودعوته إلى نشر المبادئ خارج البيت نوعا من التطبيع حد الخضوع للوافد الجديد. وحقيقة فالرواية جديرة بالقراءة والدراسة بغض النظر عن هذا وذاك، فما أشرنا إليه سوى قليل من كثير فيما انطوت عليه من إشارات فلسفية تحتاج لفهمها إلى مزيد قراءة بعد قراءة. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.