من قال أن المشاعر القديمة تموت، من قال أن أسلوب الإنسان يتغير بنموه؟ هناك مشاعر أصيلة في كل إنسانٍ تركض نحوه زاحفة، تباغته في المواقف العصيبة، تنجلي وتظهر في الأوقات الصعبة على الرغم من محاولته إخفاءها.. مشاعر هي كالمسلمات فينا.. كالحيوان الهائج نحاول ترويضها دوما، نفكر فيها بعدما تظهر صورتنا الحقيقة بدون تعديلات، في خلوتنا بأنفسنا.
مشاعر الطفولة هذه لا تنجلي. هي كلون البشرة فينا لا تتغير أبدا ولو وصلت أراذل العمر، مشاعر الخوف مثلا، انقباض عضلة قلبك التي لم تكن تعرف ما هي حين كنت تخاف من التفتيش المفاجئ على واجبك المدرسي المهمل.. هو نفسه من مديرك في العمل لتقصير منك، الضربات والمؤامرات التي كنت تتلقاها من الأطفال المتنمرين وشعورك بالعجز والضعف من المواجهة والمهاجمة هي ذاتها النابعة من تنمر زملائك بالعمل، ربما ستهاجم وتكون عنيفا أو سياسيا ولكن سيتسلل شبح شعور مخبأ داخلك لتسمع صدى صوته يتردد في حجرات قلبك الإحباطات والتقريعات السيئة التي كنت تنالها من أمك أو أبيك حين كنت صغيرا ستنالها حين تكبر لتسود مسحة الحزن على وجهك.
تشعر كأنك أصغر قامة وعمرا وأنك ترتدي ملابس طفل في السابعة لتركض نحو المرآة فترى نفسك كبيرا كأنما رحلت بآلة الزمن وتقرر أنك كبير والحقيقة في المرآة أصدق من التي في عقلك فيبقى لك الخيار إما بالمواجهة الركيكة بشخصيتك الهشة أو لتكون سياسيا مرة أخرى فتراجع والديك وفي كلتا الحالتين ستحزن مجددا وينتابك تأنيب الضمير لمراجعتك والديك كأنما عققتهما ثم لتتكوم في زاوية ضيقة بأغوار نفسك ترى فيها نفسك ذاك الصغير مجددا.
الأوقات الصعبة التي لم تكن تستطيع فيها دفع الاتهامات الزائفة عن نفسك والتي تفكر فيها أكثر من أي شيء، نشوة الانتصار التي لم تحصل عليها ولم تشعر بها ستحاول أن تعوضها بأول موقف تتعرض له.. تحاول فيها استرجاع حقك القديم فيحدث أن تبتلع حروفك فيظهر ضعف شخصيتك ولتحضر الوجوه القديمة السائرة في الأرض لتسخر منك وحتى وإن نجحت تظن نفسك أسدا حتى إذا ما التفت للوراء ترى مجموعة من الأرانب تسير خلفك.
الناس القدامى الذين آذوك حين تصادفهم يستحضرون معهم كل تفاصيل الأيام القديمة تتمنى لو يختفون فورا أو تكون هذه التفاصيل مجرد حكاية نسجها عقلك المتعب.. غضبك وثورتك على من حولك تمردك الصغير لسلبك ألعابك ومقتنياتك يسير معك جنبا لجنب عند أول صفعة مباغتة تتلقاها على وجهك تستنفر معها جميع حواسك لتثور وتنتفض وعندما تخمد تقف على حافة باردة ترى فيها ترسبات البركان ملقاة على الأرض، تعاتبت نفسك وتؤنبها فتشعر كأن عقلك سينفجر من طرقات ذاك الصغير المقفل عليه داخلك، يضرب بقبضته الصغيرة محاولا إرجاعك لسنوات مضت، ليريك أنه هذا أنت ولكن الغضب كبر معك أو أكثر منك.
| الحياة مليئة بالامتحانات الصعبة والابتلاءات كن فيها شجاعا قويا لا تخاف فيها لومة لائم.. وقوتك المخبأة داخلك بإمكانك أن توجهها في المسار الذي تريده إما الخير أو الشر |
أول فراق ذقته في حياتك عند انفصالك وصديقك بسبب انتقاله لمدرسة أو مدينة أخرى ستعيشه عندما تفارق أشخاص لم تتوقع دخولهم حياتك فترى تلك الحقيبة الصغيرة تسير مع صاحبها في طريق طويل تبتلعه فيه، خذلان من حولك لك وتقريعك نفسك بسبب ثقتك بمن حولك يستحضر معه أول صدع تشقق في قلبك لتتهم بعدها نفسك بالغباء ولتضع لنفسك أسوارا منيعة خوفا من خذلان مستقبلي مفاجئ ولكنك تعود لتثق وترتكز على أحدهم قد يتغير عليك أو يقل اهتمامه بك فتؤنب نفسك وتظن نفسك مهمشا شخص ذو دور ثانوي غير مرئي.
مشاعر الفرح وليست كل فرحة.. الفرحة المفاجئة في حضورك أنت وحدك أو بحضرة من تراه نفسك سيظهر جليا بلا كذب وخداع صراخك وركضك بل ضحكك الهستيري الذي يخرج من القلب لينير نور عينيك المنطفئ هو نفسه فرحك الطفولي الأول برحلة مدرسية أو جائزة تعزيزية.. تشعر بنقائك وجبلتك البريئة ترى نفسك طفلا لم يكبر.. كرة القدم وركضك بالملعب يثير الحماس والدافعية فيك بل يبقيك نشط وسعيدا لأيام كأنه تم شحنك بجرعات مضادة لقسوة الحياة.. حتى لعبكِ بالعرائس مع الأطفال كفيل بخروجكِ من الواقع لعالم وردي آخر.. مشاهدتك الرسوم المتحركة يعطيك سعادة لا تمنحها أموال الدنيا ولا الأشخاص دهشتك بكاؤك حيرتك من نفسك.
هي مشاعر أصيلة مهما امتد العمر بك حتى ولو ألحدت التراب ستعود معها لجبلتك الأولى عند أول محنة تتعرض لها.. تتغير الوسائل ولا يتغير الأسلوب كبصمة الاصبع تماما لا تستطيع تجاعيد الزمن إخفاءها لكل قلب ذاكرة هي أقوى من ذاكرة العقل تبقى مع الإنسان في جميع مراحل عمره ولو داهمه النسيان، تنسى ما فعلوه بك او لأجلك ولكن القلب لا ينسى فيمدك بمشاعر مساندة ترتكز عليها فتحب فلانا لسبب لا تعرفه أو تنفر من فلان آخر لسبب مسحه العقل ولكنه بقي عالقا في مكان آخر، التلوث هو ما يشوب القلب غبار متراكم يغطيه لا ينقشع سوى بعودة الإنسان لنفسه لكل إنسان ذاكرة تصويرية خاصة وملفات متراكمة يعود لها ويتصرف تبعا لها.
الحياة مليئة بالامتحانات الصعبة والابتلاءات كن فيها شجاعا قويا لا تخاف فيها لومة لائم.. قوتك المخبأة داخلك بإمكانك أن توجهها في المسار الذي تريده إما الخير أو الشر الظروف تتغير والأماكن تتبدل ولكن معدن الإنسان وتربته لا يتغيران تعريهما الرياح وتنثرهما فتغير قليلا من هيئتهما لا يتعرف عليهما المارون سوى بالتعمق والتخاطب معها.. كن وفيا لنفسك لتكون الحياة فيها وفية مخلصة لك.. تتعبك وترديك ولكن تعينك على الوقوف والصمود مجددا.. ضع لنفسك ركائزا تستند عليها حين تقع.. خريطة يعرفها بك غيرك حين تتوه وتنسى ما أنت ليعرفوك بها على شخصك ونفسك وليبقى لك الخيار أخيرا بأن تحبه أو تبغضه.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.