شعار قسم مدونات

كيف ساهم المستشرقون في نشر التراث الإسلامي؟

كارل بروكلمان

من النادر أن تجد باحثًا في الدراسات العربية والإسلامية لا يعرف المستشرق الألماني كارل بروكلمان (17 سبتمبر 1868 – 6 مايو 1956)، فهو صاحب كتاب تاريخ الأدب العرب، الكتاب الأشهر في التراث الإسلامي، وأكثر الباحثين لابد أن يعرّج عليه في بحثه، وهو تلميذ نولدكه (1836 – 1930) المستشرق الألماني صاحب كتاب تاريخ القرآن. كان لي أحد الأصدقاء قد اعتنق بالإلحاد وترك أمر الأديان، وكان منبهرًا بالمستشرقين انبهارًا شديدًا، يحكي عنهم كما يحكي عن النبيين والصديقين والشهداء، فهذا المستشرق الفلاني يعرف 15 لغة، وهذا المستشرق قد حفظ القرآن والإنجيل والتوراة وكتب بوذا والأديان السابقة واللاحقة، ونحن العرب في كثير من الأحيان لا نستطيع أن نتخلَّى عن منطق الدروشة والعقلية الوعظية في كل شيء، سواء أكان الأمر يمينًا أو يسارًا.

 

فعقلية المُلحد الذي ترك الإسلام وظل يشتم ويسب وهو جاهل لا يعرف هي نفس عقلية الواعظ الذي يسب الكفار ليلا ونهارًا ولا يقرأ ولا يفهم شيئًا، ويشبههما عقلية المثقف الذي يقرأ مقدمات الكتب ثم يظل ليلا ونهارًا يسب العرب وانحطاطهم ويمدح الغرب وتقدمهم، فهو لا يقبل كلمة عليهم بينما نحن قد وقعنا في الحضيض، فكل هذا يقع تحت بند الدروشة وإن اختلفت مجالاتها فالمنطق واحدٌ، وبعيدًا عن اصطلاح الدرويش في الصوفية فإننا لا نريد أن نصمه بسوء الآن، لكننا نستعمل هذا المنطق في عاميتنا الجميلة فنقول دائما لمن يحكي أشياء لا يقبلها العقل: "انت حتدروش".

 

لقد كان صديقي الملحد هكذا؛ يحكي لي عن مستشرقين لم يرهم ولم يلقهم كثيرا من المعجزات والكرامات وخوارق الأخلاق والعادات، والغريب في الأمر هنا أن هذا الشخص كان لا يقبل كثيرًا من الأشياء المسلَّمة في الدين، أو في التراث مما يذكر عن العلماء الأقدمين، لكن لا بأس! المستشرقون دارسون من غير أبناء الشرق انكبَّوا على دراسة كل ما يتعلق بالشرق من جوانب اجتماعية وتاريخية واقتصادية وغيرها، ومن المعلوم أن أجيال المستشرقين الأولى كان لهم فضل كبير في نشر التراث العربي، هذا لا ينازع فيه أحد، فأمهات كتب التراث نشرت على أيدي المستشرقين، كما يقول نجيب العقيقي في كتابه المستشرقون عن المستشرقين وما فعلوه بكتب التراث:

"إحياءها بتحقيقها ونشرها عن كفاية وجلد وافتنان على أحدث منهج علمي من قراءة نصوصها الصعبة في أوراق طمس الزمن الكثير من ملامحها، ثم مقابلتها بنظيرها، والتماس الأصالة فيها، والتثبت من صحة نسبها إلى أصحابها بمتعدد الأقلام، وفي مختلف الأزمان، مهما كلفهم ذلك من عناء ووقت ومال، ففلوجيل مثلا، قضى خمسا وعشرين سنة في جمع مخطوطات نص كتاب الفهرست لابن النديم، من مكتبات فيينا وباريس ولندن، ومات ولم يتم تحقيقها – ومن تصحيح ما فيها من تحريف أو تصحيف ونقدها وتمحيصها على ضوء الاكتشافات الحديثة في الآثار والعلوم والآداب والفنون، ومن أمانة على النص بحيث لا يبيح لقلمه أن يتناول كلمة أو حرف منها بالحذف والإضافة أو التغيير ومن شرح غوامضها والاستدراك عليها والإضافة إليها في هوامش صفحاتها، هذا إلى مقدمات مسهبة ومعاجم مفسرة وفهارس للأغراض والأعلام والكتب منسقة"

 

الباحث الغربي يتمتع بكل الظروف المتاحة له كي يبحث، وهذا لا ينطبق على الدراسات العربية فقط، بل أي دراسة، أما الباحث العربي الغلبان ف"ظروفه تعبانة"، يريد أن يتخرج من الكلية كي يعمل، فلا يجد عملا

وهذا الذي قاله العقيقي حقيقة واضحة فأمهات كتب التراث نشرت على أيدي المستشرقين وليس أبناء العرب، لكن هنا يوجد رجلان؛ الأول هو الدرويش الذي سبق ذكره، يقبل كل ما أتى من المستشرقين صغيره وكبيره كالقرآن، والثاني هو الجاحد الذي يرفض كل شيء من عندهم، وهذا الجاحد لو أتى إلى البحث العلمي فلن يستطيع أن يستغني عن هؤلاء المستشرقين.

وحقيقة الأمر أن هؤلاء المستشرقين مثلهم مثل أي باحثين آخرين، ففيهم الغث وفيهم السمين، لكن الفرق بيننا الآن كباحثين عرب وبين جيل العمالقة الأول من الباحثين العرب، الفرق هو أن عددًا منهم كان يُبتَعث إلى الخارج ويتعلّم، ويرون هؤلاء المستشرقين، وجيل العمالقة أعني الجيل المرافق للعلَم طه حسين، وإذا نظرت إلى رفاقه فستجد رؤوسا في كل حقل من حقول الدراسات العربية والإسلامية، في الفلسفة والأدب والتاريخ وغيره، لذا لم تجد هناك رهبة أو انبهارًا بهؤلاء المستشرقين، بل كان هناك نظرة أقرب إلى الموضوعية يأخذون ويردون، يناقشون ويبحثون وينقدون وينقضون، أما نحن فهذه الفرصة لا توجد الآن، توجد الآن عدة حقائق أسردها باختصار.

الباحث الغربي يتمتع بكل الظروف المتاحة له كي يبحث، وهذا لا ينطبق على الدراسات العربية فقط، بل أي دراسة، أما الباحث العربي الغلبان ف"ظروفه تعبانة"، يريد أن يتخرج من الكلية كي يعمل، فلا يجد عملا، فيلجأ إلى الماجستير كي يعمل مرة أخرى، فيأخذه ولا يجد عملا، أو يعمل في مجال ليس مجاله، وغير العمل يوجد الزواج، والحب والعشق، والعفش والخطبة والدخلة، وبعد الدخلة يوجد العيال، فيصير الباحث الذي إذا حافظ على صورته كباحث سيكون موظفا في الجامعة أو أستاذا في الجامعة، صاحب كرش عظيم يذهب بالبطيخة إلى أهله آخر النهار، فأين هنا البحث العلمي؟!

هكذا نحن، أما هم فعلى العكس من ذلك، إذا أراد أحدهم الدخول في مجالنا مجال الدراسات العربية والإسلامية، فأولا يُرسَل إلى الدول العربية كي يتعلم اللغة العربية، وأمر التعلُّم لا يقتصر على اللغة فقط، بل يعيش بين العرب، ويسكن بينهم، حتى قد يسكن بين عائلة عربية، وقد كان لي صديق مستشرق ألماني قد عاش مع أسرة سورية استضافته في بيتها، ثم يذهب إلى الجامعة كي يتعلم من الأساتذة العرب أنفسهم، ويسمع عنهم، هكذا يظل سنوات وليس شهرا أو شهرين، بل قد يقضي فترة الدكتوراه في بلد عربي، والحصول على هذه الفرصة في الغرب ليس أمرًا عسيرًا، إضافة إلى هذا فإن المنهج لديهم ورؤية البحث أقوى منا بكثير، فالباحث الغربي إذا دخل في نقطة البحث هو يعرف جيدًا ماذا يريد ويسعى لنتيجة حقيقية، لذا جودة كثير من أعمال المستشرقين مشهورة معروفة بين أيدي الناس.

لكن في المقابل دعني أسرد لك بعض الأشياء التي رأيتها بنفسي، كان لي صديق أوربي يعمل في الاستشراق، وكانت لغته العربية رائعة جدا ويجيد غيرها من اللغات المعدودة، بحثت عن اسمه في الانترنت فوجدته قد كتب أنه يعرف 10 لغات أجنبية، فلمّا سألته في ذلك وأنا أعرف يقينا أنه لا يعرف نصف هذا العدد، قال بأنهم يكتبون هكذا في المواقع، وقد كنت ولا زلت مهتمًا بلقاء كثير من المستشرقين العاملين في مجالنا، وجدت كثيرًا منهم مثلا لا يعرف التحدث باللغة العربية، ويتعاملون باستعلاء مع من لا يعرف الإنجليزية، بالرغم أنهم يتعاملون في مجال لغته الأم هي العربية، لكن هذا ينبع في رأيي من عدة أسباب ظاهرة، منها حالة الانحطاط الحضاري التي نحن فيها، فهم دائما ينظرون لنا من فوق.

وسواء أكان المستشرقون مؤمنين بالعلم حقًّا أم ممهدين للاستعمار ودعاة للتعصب؛ فينبغي ألا يمنعنا ذلك من قراءة ما كتبوه. فلن تخلو هذه القراءات من فوائد، ولن تخلو تلك الدراسات أحيانًا من توجيه
وسواء أكان المستشرقون مؤمنين بالعلم حقًّا أم ممهدين للاستعمار ودعاة للتعصب؛ فينبغي ألا يمنعنا ذلك من قراءة ما كتبوه. فلن تخلو هذه القراءات من فوائد، ولن تخلو تلك الدراسات أحيانًا من توجيه
 

إضافة إلى هذا، فإن البعض منهم يتعامل مع العربية كلغة ميتة لغة علم، مثل اللغة اللاتينية عندهم، فهي لغة كتب وعلم قديمة ليس أكثر، لذا فهم لا يحتاجون التحدث بها، لكن هذا لا ينفي الحقيقة التالية، أن العربي إذا تعلّم جيدا وفهم معنى البحث العلمي جيدا، فإن المستشرق مهما وصل إلى مستوى فلن يصل إلى هذا العربي، صاحب اللغة الأم، وهذا مشاهَد معروف بدهي، ذلك أنك مهما تعلّمت لغة قوم فمن الصعب أن تصل في درجة من هو متعلّمها على السليقة.

ومن المناسب هنا أن نختم بقول المنجِّد عن المستشرقين: فضرب لم يملك ناصية اللغة فأخطأ في نشر الكتب وفي فهم النصوص، لكنه حفل بأمور شكلية لا فائدة لنا منها وضرب أثّرت في دراساتهم مآرب السياسة والتعصب للدين، فوجَّهوا الحقائق وفسروها بما يوافق أغراضهم أو ما يسعون إليه. ولعل هذا الضرب هو الذي دفع الشرقيين من المسلمين العرب أن يرتابوا بالمستشرقين جميعًا؛ لأن من المؤسف أن يُسخِّر هؤلاء العلمَ الذي يسمو به الإنسان، لإذلال الإنسان أو استعباده أو الطعن على تراثه وعقيدته بغير حق. لكن فريقًا ثالثًا أوتي الكثير من سعة العلم، والتمكن من العربية، والإخلاص للبحث، والتحرر والإنصاف. فكانت دراساتهم مثمرة، وأعمالهم مباركة، وكانوا جديرين بكل إجلال.

وسواء أكان المستشرقون مؤمنين بالعلم حقًّا أم ممهدين للاستعمار ودعاة للتعصب؛ فينبغي ألا يمنعنا ذلك من قراءة ما كتبوه. فلن تخلو هذه القراءات من فوائد، ولن تخلو تلك الدراسات أحيانًا من توجيه، أو توضيح، أو تصحيح. فالمهم أن يأخذ المثقفون ما ينقصهم، وأن عليهم أن يَميزوا الخبيث من الطيب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.