شعار قسم مدونات

لا أمي عادت.. ولا البحر رأيته

blogs - قرية

مرحبا! هذه أنا، أتقاسم معكم نفس الأرض، نتنفس نفس الهواء، لا أعرف سِني، يقول أبي أنني أصغر من ابن خالتي بيومين، وأكبر من بنت الجيران بشهر، نحن هنا لا نملك ما يوَّثق أعمارنا، ولا ما يوثق زواج أهلينا أيضاً، نحن هنا نملك بعضنا البعض، هنا التضحية والحب هما اللذان يثبتان انتماءنا، لا أوراق في عالمنا نحن إلا أوراق الأشجار.. نحن هنا، هنا في الأرض، ليس لدينا ما يحدنا لأن الحدَّ واحد هو الجبال الوعرة والأنهار الخطِرة، والغابات الكثيفة المخيفة. أنا لا أعرف من الأرض إلا قريتنا الصغيرة هذه.. قيل لي مرة أن هناك في أحد أقطار هذه الأرض بُحيرة ماء كبيرة جداً، يُقال لها بحر أو محيط لونها كَلون السماء.

لقد شغفني هذا الخبر خصوصاً لما استرسلوا في الوصف، حيوانات كبيرة وأخرى صغيرة تعيش حياتها فقط في الماء ومنها ما هو صالح لأن نتغذى عليه. قيل أيضاً أن هذا البحر أو المحيط كما أطلقوا عليه؛ مالح ويفصل أحيانا بين بلدين.. والبلد شيء أكبر من قريتنا، قيل أنَّنا أيضاً في بلد.. ليلتها لم أنم ولو هنيهة. كنت متلهفة جداً للحديث في الموضوع، أخبرت أبي صباحاً برغبتي في أن أرى البحر، وبَّخني أبي يومها كثيراً، قال بالحرف: نحن لم نُخلق لنَحلم نحن هنا لنُحارب من أجل البقاء لا غير، أنت لا تعرفين حتى القرية التي توجد في الجهة الأخرى للغابة المجاورة لنا وتريدين رؤية البحر!

صديقتي التي التقيها عند ذهابي لِلَمِّ الحطب مع جدتي تُحدثني دائماً عن أمها، أحب كثيراً حديثها، ولا أنام تلك الليالي أيضاً، أتخيل أن لي أماً.. أنا أيضاً أُريد رؤية أمي؛ لكن لا أستطيع البوح لأبي بذلك لأنني بُحْت له بحلمي قبل ووبخني وأنا لا أريد التوبيخ إنه يؤلمني داخل قلبي، ألم حاد يشبه ذلك الذي يأتيني في فمي عندما يصبح أحد أسناني أسوداً.. لا أعرف عن أمي غير أنها من أتت بي لقريتي، لا يتحدثون عنها أبداً. في أحد الأيام سمعت جدتي تقول أنه لو كان هناك مستوصف للولادة لما ذهبت المسكينة مُبكراً. لم أدري ما المستوصف ولا أدري أين ذهبت، أريد أن أرى أمي لكنني أخاف البوح بذلك. عندما أكون لوحدي أفكر في أمهات صديقاتي، أعترف أنني أغار منهن كثيراً لأنني لا أملك النعمة التي يملكونها ..

سعدت جداً لمجيء الغرباء وظننت أن هذه ستصبح عادتهم وأنهم سيحموننا في فترة الموت هذه. لكن خاب ظني، ازداد الوضع سوءاً ولم تنجح أغطيتهم في القضاء على ارتفاع الوفيات ولا وعودهم بالمجيء أسفرت عن نتيجة

نحن هنا لا نرى إلا ضوء الشمس نهاراً، أما ليلاً فنحن نعيش شبه اختفاء، لولا ذاك الحطب الذي أجمعه وجدتي لكنا نقضي الليل بلا حركة.. لقد تفاجأت جداً لما قيل لي أن هناك في مكان ما بعيداً عن قريتنا هذه؛ يوجد ضوء بالليل أيضاً، يا لسعادة أولئك الكائنات الذين يستعملون الضوء متى شاءوا !عندما سألت أبي بعدما وبخني عن أي قرية يتحدث؛ قال مُختصِراً: إنك لا تعرفين شيئاً، هناك (وأشار بعيداً) توجد عدة قرى ومُدن .. مدن!! ما المدن يا أبي؟؟ لم يُجبني واكتفى بالإشارة إلى أنني لا أفهم ولن أفهم لأننا نعيش في مكانٍ ناءٍ ومن الصعب الخروج منه لانعدام الوسائل..

في فصل الشتاء تُصبح الحياة في قريتنا شبه منعدمة وبئيسة للغاية، بئيسة لأن الكثير من جيراننا يرحلون للأبد، بل وفي العام الماضي رحلت البقرة ونعجات أبي وكلبي مؤنسي.. يرحلون بسبب عدم مقاومتهم للبرد القارص؛ تكسو الثلوج المكان ويُبنى حاجز مخفي بين داخل المنازل وخارجها، كل من يتجاوزه يرحل ..في أحد المرات في فترة الموت تلك، زار قريتنا أناس غرباء عنا، أناس شديدي البياض، ثيابهم جميلة، وتفاصيلهم هادئة وليست مبعثرة كالتي ألمحها في وجوه سكان قريتنا، ولما لمستني إحداهم كانت يدها ناعمة للغاية بخلاف أيادينا الخشنة المتشققة بسبب قساوة الجو هنا.

هؤلاء الغرباء أتونا محملين بأشياء غريبة منها ما يبدو طعاماً والأشياء الأخرى أغطية تبدو دافئة، ومجموعة من الأوراق والأقلام وأشياء كالمُصحف الذي يملكه أبي.. اجتمع أهل القرية على هؤلاء الغرباء بتعجب وانبهار.. الكل كان يتسابق للحصول على نصيب من الأشياء التي جلبوها لنا، إلاي كنت أستمع لتلك الفتاة ذات اللمسة اللطيفة، هي من أخبرتني بأمر المحيط والكهرباء والبلدان والمدن أيضاً وهي من شرحت لي معنى مستوصف وحدثتني كذلك عن الكُتب، إنها تلك الأكوام من الأوراق التي تشبه مصحف أبي. لقد قالت إنها للقراءة لكنني فكرت بصمت: لكن لم أرى أبي يوما يقرأ المُصحف ..

ولما سألتها من أين علموا بوجودنا هنا، أجابت باقتضاب أن واحداً من صِبية القرية تَمكن من الذهاب إلى مدينتهم وتعلم هناك وهو الآن رئيس الجمعية التي جاءت بهم إلينا.. تمهلي ما معنى التعلم! ما الجمعية! وكيف صنعوا هذه الأشياء الضخمة التي أتت بهم إلينا؟ أخبرتني أنهم عند بلوغهم سِناً معينة يتوجهون لمكان يلقنونهم الحروف ويعلمونهم الكتابة والقراءة، وبهذا يعرفون ما يجري في العالم وماذا جرى وكيف تتكون كل الأشياء حولنا، ويتعلمون صناعة ما يساعدهم على الحياة ويخفف من صعابها والكثير الكثير من الأشياء التي ما بخلت على بذكرها .. سعدت جداً لمجيء الغرباء وظننت أن هذه ستصبح عادتهم وأنهم سيحموننا في فترة الموت هذه. لكن خاب ظني، ازداد الوضع سوءاً ولم تنجح أغطيتهم في القضاء على ارتفاع الوفيات ولا وعودهم بالمجيء أسفرت عن نتيجة..

أبي رغم توبيخه المستمر يُحبني، إنه طيب للغاية، يمدني بغطائه في الليال الباردة ويُعطيني عصيدته عندما لا أشبع، إنه سمح لي بإدخال الأرنب في فترة الموت رغم بشاعة صنيعه.. إنه ساعدني وأسعدني كثيراً عندما حكى لي عنِ الله واسترسل في الحديث عن الصلاة وعن المصحف المقدس، عندما سألته عن سبب احتفاظه به رغم عدم استعماله. لقد كان جميلاً جدا وهو يتحدث عن الله، كانت عيناه تتلألأ وكأنه يراه أمامه، لقد أبهرني وقدم لي جميلاً لن أنساه، لقد علمني حب الله وذاك الحب كان أنيسي بعدها في قريتي النائية..

كبرت يوماً بعد يوم، لا أمي عادت، لا البحرَ رأيته، الكهرباء لم تُضيء قريتنا ليلاً، الغرباء لم يعودوا، الكتب أشعلناها مع الحطب عندما أتت فترة الموت، لم أرى القرية المجاورة ولا المدينة التي تليها، لا المدرسة ولجتها ولا القراءة أتقنتها. المستوصف لم يُبنى وجدتي لم تشفى، لا أبي قرأ المصحف المقدس ولا أنا حملته من بعده.. كان أبي على حق.. نحن خُلقنا لنُحارب من أجل البقاء لم نخلق لنحلم!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.