شعار قسم مدونات

الكاتب تحرضه الكلمة وتحاصره الفكرة

blogs الكتابة

أكثر ما يخيف الكاتب، فكرة خام تؤرقه وعجزت لغته عن صقلها، ذلك ما يجعل من الصفحة البيضاء الفارغة من أفكاره وكلماته ذعراً حقيقياً يفزعه كما لو أنه يواجه أخطر عدو على تخوم حضوره الأدبي، فهاجس الكتابة يجعله يضع الحياة والكتابة في ميزان تتساوى دفتيه، وقد ترجح في نفسه ولو سراً دفة الكتابة لأنها بالنسبة إليه وجوده الحقيقي.

 

خلال الأسابيع الأخيرة من نهاية العام الفائت، كثرت الإصدارات الأدبية الجديدة، الشعرية والروائية والنثرية، ووضع النشطاء من القراء خططهم للقراءة خلال العام الجديد وأعلنوا تحدياتهم بإنهاء قراءة أعداد كبيرة من الكتب، حتى الجوائز الأدبية أعلنت عن قوائمها أو فتحت أبوابها أمام مرشحين جدد لدورة العام الجديد، ووسط تلك الموجة العذبة التي تحدث نهاية كل عام تساءل بعض القراء ممن خالفت بعض الأعمال توقعاتهم خاصة أولئك الذين ينتظرون كاتباً معيناً يتابعون جميع إصداراته.

 

إن كان هناك سبب ملح لأن يصدر الكاتب كتاباً جديداً إن لم يكن لديه فكرة فريدة ومغايرة لإصداراته السابقة، فهل هناك ما يستوجب أن يصدر عملاً جديداً ليبقى حاضراً بين الحضور، ويتجاهل بضعف عمله الجديد قوة أعماله السابقة وأثرها على قُرّائِه كما يتصورها محبوه وأن الناقد الحقيقي الذي يمارس سلطته بالتقييم دون قيود تحده هو القارئ نفسه الذي قد ينقلب عليه أو يبقى درعه الحامي.

 

يحدث أن يتعرض الكاتب لما يسمى “قفلة الكتابة” حين تهجر الكلمات صاحبها وترصد أثر بعدها بينما هي على شفا أصابعه تلوح بظلها وتثير رائحة الأفكار والأحداث

أجاد العبقري ماركيز التواصل مع القارئ أثناء كتابته لكلاسيكيته الشهيرة “مئة عام من العزلة” فقد نشرت إحدى الجرائد الإسبانية تحقيقياً حول روايته الأسطورية، قيل في التحقيق أن ماركيز بعدما قرأ روايته وهي شبه مكتملة شعر بأنه تورط بنصه كمغامرة تتصارع بها الكارثة مع السعادة، فانتابه ما يشبه التراجع وعدم الحماس لنشرها، فالكاتب حتماً متورط بنصه، ذلك ما دفعه وهو صحافي قبل أن يكون روائياً، إلى نشر سبعة فصول من روايته في صحف مختلفة، لتطمئن وساوسه وتهدأ ريبته.

 

ونتيجة لنشره تلك الفصول تابع ماركيز آراء وانتقادات القراء باهتمام حتى أنه قام بنشر أحد الفصول في جريدة معظم قراؤها من النقاد والقراء المتمرسين، وأعاد ماركيز كتابة الفصول المنشورة في الصحف بحسب ما تلمسه من القراء فجاءت الرواية بتلك الواقعية والغرائبية التي جعلتها أيقونة أدبية فريدة، وأخذت تلك التعديلات عاماً إضافياً حتى ينتهي من كتابة روايته كما نُشرت أخيراً.

 

قد تتوقف الكلمات فجأة وتصبح عسيرة الوجود، وقد تبقى حبيسة فكر الكاتب حتى يتأتى لها ظرفاً يناسبها لترسي أخيراً على صفحاته، وفي أتون هذا الركود تأبى الكلمات الهوادة وتنزف الأفكار أحرفاً ومفردات مشوشة من حصارها. يحدث أن يتعرض الكاتب لما يسمى “قفلة الكتابة” حين تهجر الكلمات صاحبها وترصد أثر بعدها بينما هي على شفا أصابعه تلوح بظلها وتثير رائحة الأفكار والأحداث، قريبة وبعيدة في الوقت ذاته، ذلك ما يجعل الكتابة عمل مضني لأن الكاتب يُدمن ممارسته للكتابة وصياغة مفرداته بذوقه وحسه الخاص ويشغله هم أبحاثه ومشروعه الأدبي أو العلمي.

 

وغالباً ينسحب القارئ إلى عالم النص الداخلي ليجد نفسه طرفاً من أطرافه، وقد يظهر للقارئ الذكي أثر صراعات الكاتب مع قسوة الكلمات وصلابتها، رغم ذلك في معظم الأحيان يجد الكاتب لنفسه فسحة للكتابة حتى لو اختلفت عما هو معتاد فهذا جزء من ترويض الكلمة، لذلك نجد الكاتب يكتب في أنماط الكتابة المختلفة، قد يهرب من الرواية إلى الشعر أو يستظل بالنثر، فهو لا يملك إلا أن يكتب لأن الكتابة حاجة ملحة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.