شعار قسم مدونات

هل بالفعل على أرضي ما يستحق الحياة؟

blogs تونس

استوقفني منشور على فيسبوك جاء فيه أن محمود درويش حين ألقى قصيدته الشهيرة "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، كان يتحدث عن باريس التي اتخذ منها مقاما في فترة ما من حياته. وبغض النظر عن محاولة كاتب هذه المنشور التفكّه متوسلا أحد أعمال درويش، لكنني لا أخفي سرا أن حس فكاهته انتزع مني ابتسامة، التي سرعان ما تبعها تساؤل مرير: هل لا زال على أرضي ما يستحق الحياة بعد مرور ثمانية أعوام على قيام الثورة؟

لا أحد يستطيع أن ينكر أن بلادي هي مهد الربيع العربي. وربما لو لم يخرج التونسيون إلى الشوارع في الفترة الفاصلة بين سنة 2010 و2011 مطالبين بالتنمية والعيش الكريم في البداية ومن ثم بإسقاط النظام لما اهتز العالم العربي على كلمة ثورة. وربما كنا لنستمر في العيش كما عهدنا دائما، تارة تصفعنا الحياة وتارة أخرى نلوي ذراعها ونحصل على ما نريد حتى وإن كان الندر القليل.

رغم مرور ثماني سنوات فقط على اندلاع ثورتنا بيد أنني لا أكاد أتذكر ملامح الحياة قبل هذا الحدث الفاصل. قد يعود ذلك لأنني لم أغص في عالم المتمردين على النظام السابق وجل مقاومتي كانت تُختزل في ارتداء الحجاب رغم أنف من يرون فيه استفزازا لعلمانيتهم وجهلهم بحرية اللباس، فضلا عن الذهاب إلى المسجد الذي أصبح لاحقا يُغلق في وجه من تريد دخوله خارج أوقات الصلاة.

مع ذلك، كان من الواضح أن الأمور تغيرت بشكل لا يستطيع أحد إنكاره. ما عاد الحجاب أو الذهاب إلى المسجد أو إطلاق اللحية تزعج أحدا. حسنا، ربما لا زالت هذه الأمور تثير استياء نخبة نسميها "الثقفوت" في بلادي، ولكن حرية التعبير جعلت الجميع يتحدث عن كل شيء ولا شيء وبالتالي لا أحد يستطيع انتقاد أمر ما إلا ووجد من كان له بالمرصاد.

أصبح من يتمسك بموقفه ومبادئه كالقابض على الجمر. فإذا أردت أن يكون لك منصب ومال وجاه فلا بد من أن تتخلى عن قواعد اللعب النظيف وأن تنضم إلى قافلة من تبرر غايتهم وسيلتهم

بعد ثماني سنوات على قيام ثورة قلبت الموازين وطالت شرارتها البلدان المجاورة وحتى البعيدة نسبيا، أصبحت بلادي بلد التناقضات بامتياز. ستجد فيها من يبيع الخمر ولا يكاد ينطق بكلمة حتى يتبعها بآية من القرآن الكريم. في حين سيعترضك من يدعي أنه ضحى بنفسه وماله وولده أيام الجمر حين كان ملاحقا من قبل النظام لكنك ما عدت تستطيع الآن التفريق بينه وبين فلول بن علي لكثرة الألوان التي تلون بها مثل الحرباء. وكل ذلك كي يظل في الصورة ولا يتم إقصاءه بسبب انتماءه الديني والحزبي.

في بلادي، أصبح من يتمسك بموقفه ومبادئه كالقابض على الجمر. فإذا أردت أن يكون لك منصب ومال وجاه فلا بد من أن تتخلى عن قواعد اللعب النظيف وأن تنضم إلى قافلة من تبرر غايتهم وسيلتهم. وإذا لم تتبع هذه الخطوات، فسترضى بالقليل حتى وإن لم يكفيك.

صحيح أن بن علي هرب من البلاد، ولكنه ترك على شاكلته الآلاف ممن ينهبون ثرواتها ولا يدخرون جهدا لأكل الأخضر واليابس (أو مثلما نقول بالعامية يتعشى بالدنيا ويتسحر بالآخرة). لكن، ما محل شباب البلاد من كل هذا؟ هل يسير على خطى البالغين فإما يكتفي بالقليل أو يصبح من المافيا؟ أم أنه لا يجد على أرضه ما يستحق الحياة فيسعى إلى هجرة حتى وإن كلفته حياته؟ هل نضحي بأنفسنا من أجل بلادنا أم نضحي ببلادنا وندعها بين أنياب الذئاب وننفد بجلدنا؟ 

بعد ثورتنا المجيدة، بات الجميع يتحدث عن علم وعن جهل. انخفضت قيمة العملة وتضخمت الأسعار وانتشرت الجريمة، أو أنها لطالما كانت منتشرة ولكن القنوات التلفازية والإذاعات والصحف لم تكن تتحدث عنها بهذا الإسهاب الذي نشهده اليوم لحفظ صورة النظام البائد وإظهار البلاد على أنها أرض الأمن والأمان ويحيى عليها الإنسان.

أصبح الجميع يهاجم الجميع بشتى الوسائل وأقذرها حتى وإن وصل الأمر إلى القذف والسب والشتم وتجاوز الخطوط الحمراء. يحز في نفسي ويؤلمني أنني أحيانا أشعر وكأنني أعيش في بلاد الكفار الذين لا دين لهم ولا ملة ولا عهد ولا ميثاق وكل همهم كم من الأموال سأجمع وكيف أحتال وأسرق وأخون دون أن يُكشف أمري وأتعرض للعقاب.

قد ننتظر سبعا عجافا أخرى قبل أن نخرج من عنق الزجاجة وتبدأ الثورة المجيدة تؤتي أكلها فنسير نحو تقدم ورفاه لطالما حلمنا به وعمل قلة قليلة منا لأجل تحقيقه، وقد يتطلب ذلك عدة أجيال قادمة ربما تحقق ما عجزنا نحن عن فعله.. لأنه وبكل بساطة على هذه الأرض ما يستحق الحياة حتى وإن كان ضئيلا ولا يروي عطش من هو مقبل على الحياة ويحدوه الأمل والطموح، ولأن بلادي وإن جارت علي عزيزة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.