شعار قسم مدونات

الكل يؤلف الكتب!.. كيف أصبح الأدب تجارة مربحة؟

BLOGS كتب قديمة

خلال متابعاتي اليومية لإصدارات الكتب والأدب لاحظتُ أنّه لا يكاد يمرّ يومٌ إلّا ويُعلن فيه أحد الأشخاص عن صدور كتابٍ جديدٍ أو يدعو لحضور توقيع كتابهِ، أو يصوّر بعض الاقتباساتِ مع فُنجان قهوةٍ واضعاً فوقَها تعليقاً أحمقاً يقول: مَن منكم قرأ كتابي؟ مَن منكم اشترى كتابي؟! ثم يقومُ بتحميلها على الإنترنت وما تيسّر من مواقع التواصل، فإذا دخلتَ على الفيس بوك وجدتَهُ يتحدّث عن كتابه، وإذا دخلتَ على الانستغرام وجدتَهُ نشر غلاف كتابه، وإذا دخلتَ إلى التويتر وجدتَ اقتباساً من كتابه! فكأنْ لم يكتب في الدنيا أحداً سواهُ، وكأنّه في كتابه هذا فاق معرفة الفراهيديّ وابن خلدون!

في عام 106 قبل الميلاد قال شيشرون: "إنّها أوقاتٌ عصيبة صار الكلّ يُؤلّف الكتب!" فماذا أقول أنا اليوم؟! إنّ هذا التدفُّق الغزير من الاصداراتِ الجديدة للكُتب، أو لنقُل بمعنى أصحّ الروايات –إذ أنَّ جُلّ ما يُنشر هو روايات- يجعلُني أتساءلُ بشيءٍ من الاستهجانِ وقلقِ هل صار الأدبُ تجارةً مُربِحةً للحدِّ الذي يجعلُ الناس يُؤلِّفون الكتبَ بهذه الطريقة الجُنونيّة؟! بل هل أنهى الناس قراءة كلِّ ما أُلِّفَ ونُشِر من كتبٍ على مرِّ الزمان ليعكفوا على كتابة كتبٍ جديدة ليقرأوها فيما بعد؟!

لقد صار الوسط العربي في الآونةِ الأخيرة مجتمعاً كاتباً لا قارئاً كما يُفترض به أنْ يكون، حيثُ أنّ نسبةً جيّدةً منهم امتهنت الكتابةَ وسيلةً للربحِ والعيش، وهذا ما جعلَ الأدبَ يغدو ركيكاً فارغاً لا فائدةَ منهُ ولا جديدَ فيه إلّا ما ندر. يقولُ جون بول سارتر في حديثهِ عن الأدب: "الشعر يخلقُ الأسطورة، والنثر يرسمُ صورةً له" وفي هذا الصدد يحقّ لنا -كقُرّاء لهذه المؤلفات- أن نتساءلَ أين الأسطورة التي يخلقُها الشعراءُ المُحدَثِين في قصائدِهم؟ وأين الصورة التي يرسُمها أولئك الكُتّاب في النثر؟

الأمر الذي لا يغفلُ عنه أيّ مُطّلعٍ على وضع الأدب الحاليّ هو تساهُل الرقابة الثقافيّة وانعدامها في بعض الأحيان، إذ أنَّ كثيراً من الكتب التي تغزو المكتبات لا ترقى لأنْ تسمى أدباً ولا تستحقُّ ما يُدفَع فيها من مال!

بعد هذه المَهزلةِ التي لمْ تقدِّم شيئاً جديداً للأدبِ ولمْ تحلَّ مشكلةً واحدةً من تلالِ المشاكلِ المُكدّسة في الوسط العربي أكادُ أجزمُ أنّ نسبة الكُتب المنشورة في العام الواحد تفوقُ نسبة الكتب التي يقرأها الفرد العربيّ! ففعل الكتابة صار لدى الكثيرين أسهلُ بألف مرّة من فعل القراءة، إذ أنّ الثانية –في نظرِهم- تحتاج لتركيزٍ وتفحّصٍ وتمحّصٍ لقطفِ ثمار الفائدة منها، في حين أنّ الأولى لا تحتاج سوى قلماً وورقةً وبعض الخيال، ومن ثمّ يبدأ رصفُ الكلمات التي تُقذَف على رؤوسِنا على هيئة كتب تقدّر أرباحُها بعشراتِ الآلاف.

إنّ الأمر عائدٌ بالدرجةِ الأولى في هذه المهزلةِ إلى دور النشر والمطابع، فهي غالباً ربحيّةٌ وتستغل سذاجة المؤلفين فتقوم بشراء ما يكتبون لنشرهِ والتصرّف فيه كيفما شاءت، وهنا تبدأ الكارثة، فمؤسساتٌ مثل هذه هدفها الأول ربحيّ بحتٌ لا يعنيها الأدبُ في شيءٍ، لا يعنيها أنْ يكون في الكتاب أخطاءٍ لغويّة، أو نحويّة، أو مطبعيّة، فالجميع يخطأ وجلَّ مَن لا يسهو! ثم لا بأس، وألف لا بأس إنْ لم يُقدّم هذا الكتاب جديداً للأدب أو اللغة، فكم مِن حديثٍ يسرق ساعات من وقتنا دون أن يكون له فائدةٌ تُذكر!

هذا أمرٌ أمّا الأمر الآخر الذي لا يغفلُ عنه أيّ مُطّلعٍ على وضع الأدب الحاليّ هو تساهُل الرقابة الثقافيّة وانعدامها في بعض الأحيان، إذ أنَّ كثيراً من الكتب التي تغزو المكتبات لا ترقى لأنْ تسمى أدباً ولا تستحقُّ ما يُدفَع فيها من مال! هذا شيء، شيءٌ آخرُ لا يُمكن غضُّ الطرفِ عنه هو أنَّ بعض هذه "الأدبيّات" أو الكتب المنشورة صارت تنحو منحى الإباحيّة حيناً، وتعتدي على الدين حيناً آخر، فكيف أمكن المؤسسات الثقافيّة السكوتُ بل والموافقة على هذه المهزلة "الأدبيّة"؟! إنّ قيمة الأدب المُقدّم تكمنُ في الإضافة التي يقدّمها لنا الكتاب والتغيير الذي يُحدِثَه فينا، أي أنّها تكمنُ في الكيف لا في الكمّ ولا في المبلغ المَبذول فيه، فمتى كان للأدب أثرٌ علينا أو فينا أستحقَّ أن يُسمى أدباً وعلى وأستعلى على كونه سلعةً تُتاجر بها دور النشر والمطابع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.