شعار قسم مدونات

بين التقسيم الطائفي والعرقي.. ماذا سيبقى بعد تفجّر خريطة العراق؟

blogs العراق

في شمال العراق، بعد عام تقريباً من تحرير الموصل، زرتُها في يوليو 2018، رأيتُ مبانٍ مهدمة وشوارع بلا أرصفة ومنازل بلا سقوف، تحّولت المدينة الى أنقاض، الكهرباء والمياه يعملان بشكل متقطع؛ كان داعش قد لوّث الأنابيب بمواد نفطية، في أطراف المدينة، لم يكن هناك تعليم رسمي، مع فرص ضئيلة للعمل، ولم يعد سوى نسب قليلة من المكونات العرقية والدينية، فبعد أن دمرت الدولة الإسلامية (داعش) المُدُن والقرى المتناثرة حول دِجلة في نينوى 2014، غادرَ ما لا يقل عن 20 إلى 30 في المائة من العائلات المسيحية العراق، وعندما تم تحريرها وجد أولئك الذين عادوا أن منازلهم قد أُحرقت ونُهبت، وحُفرت الأنفاق تحت طوابقها. 

يدورُ الجدل الآن حول كيفية حماية الأقليات في العراق – ويرتبط هذا السؤال المُعاصر بحوارٍ طويل الأمد، بين الباحثين وصانعي السياسة حَول بناء الأمة والقومية: هل تستطيعُ الدول الحفاظ على الاستقرار على المدى الطويل بينما تمتلكُ مجموعةً واسعةً من الهويات العرقية والدينية؟

يُطرحُ التقسيم، كحلٍ شائِع، تجددهُ اللحظة في أحدث حلقةٍ من سلسلة طويلة من أحداث الإبادة الجماعية الُموجهة، كما يأتي كعصا سحرية بالقَول :«سيستمر هذا العُنف، ما دامت القوى الأصوليةُ مهيمنة؛ لذا فالسبيلُ الأنجع لإنهاء الصراع، هي إعطاء كل مجموعة منطقةً ذاتية الحكم، بدلاً من رسم حدود تعسفية» وهو ما طرحَهُ نائبُ الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، في مقال نُشر في صحيفة النيويورك تايمز عام 2006، مع كاتب السياسة الخارجية ليزلي غيلب، واقترحا أن يتم حل التطهير الطائفي، من خلال إنشاء نظام فيدرالي – مكون من ثلاث مناطق: كردية وسنية وشيعية، تتمتعُ بقدرٍ كبير من الحُكم الذاتي، بقوانينها وقواتها الإدارية والأمنية. 

التقسيمُ لن يحمي الأقليات في العراق لأنه يعالج القضايا الخاطئة: الحدود، والتنوع العرقي. في الحقيقة انهُ يتجاهلُ الدوافع الحقيقية للصراع في العراق، التي يدركُها العراقيون: تهافت الدولة مركزية، والفساد الإداري، توزيع غير متكافئ للموارد

في عام 2016، كتبَ مارك فيفيل، مستشارُ الأمن القومي السابق لجورج دبليو بوش، في مجلة التايم أن بايدن كان على حق: "يَجِبُ إعطاء العرب السُنة منطقة حكم ذاتي، كحافزٍ لمحاربة داعش". لكن هذه الأفكار مبنية على إدراكٍ مشكوك فيه، لكلٍ من تاريخ العراق، وواقعه. مثل العديدِ من التحليلات الغربية فإنها تُميلُ لحلولٍ سَهلة للصراعات الداخلية المُعقدة، فترى العراق صندوقاً لـ«الطائفية» و«المناطقية». فهل سيعملُ الانفصال على الحد من العنف العرقي والديني؟

الإشكالُ في «حل» التقسيم القائم على فرضيةِ أن التجانس العرقي يُولد الاستقرار، صَعدت هذه الفكرة إلى ذروة الجدل، في الفترة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، مما أدى إلى سياساتٍ ضارة مثل نقل السكان القسري، والتغيير الديمغرافي، والإبادات ومجتمع «الغيتو». في ذلك الوقت، تم قبولُها كحلول مُفترضة للصراع الاستبدادي، والآن، تعتبرُ الأمم المتحدة أن عمليات بناء الدولة القائمة على أساسٍ عرقي، وحشية، إذ مرّت بتاريخِ التطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية، والإبادات الجماعية.

كان مفهومُ حماية الأقليات، تنازلاً صريحاً لاستحالة إقامة دول متجانسة عرقياً.، آنذاك، افترضت النظريةُ السياسية أن هناك طريقتين لتشكيل الدولة: الاتفاق المدني الليبرالي على عقدٍ اجتماعي، أو تقرير المصير على أساس الهوية العرقية المشتركة. بعد الحرب العالمية الثانية، تحوّل المجتمع الدولي من حقوق الأقليات إلى حقوق الإنسان. ومع ذلك، فإن حلاً مثل "تقسيم العراق" يعود إلى المفهوم العرقي القديم للدولة الذي خَلّفه التاريخ. إن الصَخب الغربي لتطبيق هذه الأُطر التنازلية على العراق وسوريا اليوم، يُذكر بمعاملة الدول الكبرى لأوروبا الشرقية في فترة ما بين الحربين: المُتعالية والُمستشرقة وغير الفاعلة في نهاية المطاف.

التقسيمُ لن يحمي الأقليات في العراق لأنه يعالج القضايا الخاطئة: الحدود، والتنوع العرقي. في الحقيقة انهُ يتجاهلُ الدوافع الحقيقية للصراع في العراق، التي يدركُها العراقيون: تهافت الدولة مركزية، والفساد الإداري، توزيع غير متكافئ للموارد، والسلطوية، فالنظام العراقي الحالي مبني على توزيع طائفي للسلطة (تحاصّص) نسب للتمثيل الطائفي، فإن هذا النظام قد فرض امتيازاتٍ للساسة لتكثيف الولاءات الطائفية والمناطقية. بالنسبة للجزء الأكبر من الشعب، فإن دعم حزبٍ طائفي هو الطريقة الوحيدة للحصول على وظيفة وحياة كريمة. أكبر الخاسرين في هذا النظام هم أقلياتُ العراق، الذين لديهم ممثلون في البرلمان، بناءً على كوتا الأقليات، لكنهم يجدون أن لا أحد يُمثل مصالحهم، فالنجاح الإنتخابي يتطلبُ تحالفا مع الكُتل الطائفية الرئيسية: الشيعة والأكراد والسُنة. 

في قرقوش، قال الأب إغناطيوس العوفي من كنيسة سانت بهنام، في حوار، إن المسيحيين لديهم 18 مرشحاً للإنتخابات، لكن لا أحد منهم يفوز لتشتت الأصوات. مثل المسيحيين، هناك اليزيديين ويعتقدون ايضاً أنه لا أحد يهتم لأمرهم، فالمساواة والديمقراطية محض أوهام، على حد تعبير مدير منظمة يازدا، وهي منظمة غير حكومية لإغاثة الأيزيديين:«في النهاية، إن ما يحميك هو قوتك» عانى الأزيديون من أسوأ عمليات التطهير العرقي، والاستعباد الجنسي مِن قِبل داعش، ولا يزال هناك حوالي 3000 من النساء والأطفال في الأسّر، ولا توجد استجابة قانونية من المحاكم العراقية والدولية حتى الآن.

بدلاً من إخراج الأقليات من النظام والعودة إلى النموذج الأبوي للحرب، هناك طريقة أطول أجلاً وأكثر فعالية لحماية الأقليات: معالجة مشاكل اختلال توازن القوى، والفساد والأمن وسيادة القانون

ما تريدهُ الأقليات، ليس الانفصال، بل دولة غير طائفية. "لا يمكن أن يكون العراق دولة شيعية أو سُنية، العراق للجميع، يجبُ أن نبني هوية حقيقية ليست عرقية أو دينية" هذا لسان حال الأقليات، رغم التهميش المستمر، والحرمان من العدالة، إن السياسة، وليس الهويات القبلية الفطرية، هي المسؤولة عن العُنف. إن العلمانية غير الطائفية لها جذور عميقة في العراق، وبين الشيعة بتاريخهم الثري، في تأسيس الحزب الشيوعي – هناك سياسات غير طائفية ريفية وحضرية في الدولة الحديثة، والواقع أن الاحتجاجات الأخيرة في البصرة بجنوب العراق، لا تتمحورُ حول الهوية الطائفية، بل البطالة ونقص الخدمات. أولئك الذين يطالبون بالحكم الذاتي، في البصرة، مثلاً، لا يفعلون ذلك على أساسٍ طائفي، كما يميلُ المُفكرون الغربيون إلى افتراضه، ولكن على أمل تحقيق توزيع أكثر عدالة للثروة.

كثير من العراقيين يشعرون بالحنين لأيام الدولة القوية، لكنها اقترنت بنظام صدام حسين، والذي قتل مئات الآلاف من العراقيين، في الحرب والحملات التي تستهدف الأكراد والشيعة بشكلٍ واضح.  لكن هذا لا يُقلل من حقيقة أن المشكلة الرئيسية في العراق، هي دولة الغنائم، مع المليشيات والأحزاب الطائفية كآلية للتوزيع، إذا أردت حماية الأقليات في العراق، فإن الحل لا يتمثلُ في مزيدٍ من التجزئة والفصل، بل الإصلاح الهيكلي. أحدثت الانتخابات العراقية الأخيرة، وهي الأولى منذ التحرير، زيادةً في التحالفات بين الطوائف. 

هذا يعكسُ الجو غير الطائفي، الذي يقترح التكنوقراط، ومع ذلك، لم يتغير الإطار العميق للسياسة. ينضم الجميع، والسؤال الوحيد هو مَن الذي يحصل على الوزارات، ومن يحصل على قطعة اكبر من الكعكة؟ تشيرُ الدراسات الحديثة إلى أن التقسيم العرقي لا يحمي الأقليات بشكلٍ أفضل، أي أن الدول التي يتم تقسيمها بعد الحرب الأهلية لا تقل احتمالا أن تتفجر في الحرب مرة أخرى من الدول غير المُقسمة (جنوب السودان). في دراسة أُجريت عام 2003 حول العرق، والتمرد والحرب الأهلية، وجد جيمس فيرون وديفيد لايتين في جامعة ستانفورد أن الدول المتنوعة عرقيا ودينيا ليسوا أكثر عرضة للحرب الأهلية من غيرهم. 

بل مشكلات مثل الفقر والنمو البطيء للإقتصاد والدول الضعيفة هي العوامل التي تخلق الظروف للتمرد وتجعل النزاع الأهلي أكثر احتمالاً. فبدلاً من إخراج الأقليات من النظام والعودة إلى النموذج الأبوي للحرب، هناك طريقة أطول أجلاً وأكثر فعالية لحماية الأقليات: معالجة مشاكل اختلال توازن القوى، والفساد والأمن وسيادة القانون. 

إنه نهجٌ كولونيالي، شوفيني القائلُ إن الأكراد والمسيحيين والشيعة والسُنة العرب واليزيديين يَجِبُ أن يعيشوا في مجتمعاتٍ منفصلة ومغلقة على أنفسهم، والحلول الأكثر استدامة ودقة هي ذاتها في الديمقراطيات الغربية: حماية الأقليات من خلال التكامل والمساواة، ومعالجة انتهاكات حقوق الإنسان، من خلال دعم المواطنة الفردية؛ وليس عن طريق إخراج الناس واستبعادهم وفقاً للهويات الضيقة. إذا كان العراق دولة مواطنة على قاعدة المُساواة، هل ستكون هناك طائفية؟ 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.