شعار قسم مدونات

الإعجاز العلمي في القرآن.. هكذا أجاب عن سؤال المعنى من الحياة

blogs قرآن

القرآن الكريم كتاب ديني سماوي، نزّله الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم، لتبليغ الناس رسالة الإيمان والتوحيد، وهو إلى جانب كونه رسالة ربانية للعالمين، يعتبر كذلك معجزة خالدة في جميع جوانبه اللغوية، والعلمية، والدينية…، استعان به النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة الناس وإرشادهم إلى الدين الإسلامي، فالقرآن الكريم إذن؛ كتاب يحوي بين دفتيه حقائق مختلفة وجديدة، تخالف في التصور، كل ما تعارف عليه العالمين آنذاك.

وهو، أي القرآن الكريم، في حقيقة الأمر، كتاب هداية، يقول الله تعالى: (إِنَّ هذا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9))، والهداية هنا، لا تقتصر على الهداية الروحية فقط، بل تتعداه لتشمل هداية العقل البشري إلى اكتشاف ما يعين الإنسان (المكلف)، على أداء مهمته (خلافة الأرض وعمارتها) على أحسن وجه. وكونه كتاب هداية روحية من وجه أنه دّل على حقيقة وجود الله، وصحح ما سار في الناس من عقائد فاسدة حول فكرة "الإله"، سواء كانت صورة وثنية شركية، أو صورة محرّفة…، وحول فكرة "الوجود" وبدء الخلق، وفكرة "الكون" وطبيعة علاقة الإنسان به، وفكرة "الغيب والبعث واليوم الآخر"، فرؤيته للخالق والوجود والكون رؤية متميزة.

أما كونه كتاب هداية للعقل البشري، من وَجْهِ أنه لم يكتفِ بإيراد حقائق علمية في آياته وسوره، بل وجّه المسلمين إلى إعمال النظر والفكر في ملكوته سبحانه وتعالى، ففتح لهم بذلك، آفاقاً رحبةً لاستخدام ملكة العقل في إدراك دقائق الأمور ومسبباتها، بدءا بالنفس، (وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) مرورا بالكتاب، (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ ۗ) ، والتلاوة نوع من أنواع التدبر والتفكر، وانتهاء بالكون كله، (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار).

القرآن الكريم لا يضّم بين دفتيه فرضيات علمية معرضّة للتكذيب، أو من صنف تلك التي يتجاوزها الاكتشاف العلمي بمرور الزمن، بل يقدم حقائق علمية ثابتة لا تتغير

إن مقاربة القرآن للظواهر العلمية فريدة من نوعها، تبين؛ أنه ليس كتابَ علمٍ بالمعنى المحدودِ للكلمةِ، الذي يفرضُ النظر إلى أسبابها وحسب، أي إلى تكوينها، بل يتعداه إلى أبعد من ذلك. ما يجعل منه كتاباً مختلفاً تماماً عن كتب العلم، وبالتالي لا يصح مقارنته بها، لأنه يتميز عنهم. ولا يعني هذا، أن كل ما وصل إليه العلم يتناقض بالضرورة مع القرآن، بل كل ما في الأمر أن ما وصل إليه العلم يحتاج إلى إضافة نوعية، تجعل منه علما نافعا وخادما للإنسان أكثر، وهذه الإضافة النوعية هي: سؤال "المعنى"، الذي نجده في القرآن الكريم، ولا يمكن أن نجده في كتب العلم.

لكن يبقى السؤال المهم، كيف نوافق بين علمية القرآن وقرآنية العلم؟ بمعنى، كيف يمكننا القول إن القرآن كتاب علم يحتوي على تفسيرات دقيقة لبعض الظواهر، وفي الوقت نفسه نحاول أن وفق بين أحدث النظريات معه على الرغم من أنه لا يشير إليها، أو لنقل بعبارة صريحة، كيف يتعامل المسلم الذي يملك هذه الرؤية التي يقدمها القرآن، مع الظواهر الكونية التي اكتشفت من قبل العلماء، أو في طور الاكتشاف؟ 

ناقش الفيلسوف طه عبد الرحمن هذه الرؤية في كتابه: "الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري"، الصادر عن المركز الثقافي العربي، التي يطلق عليها اسم: "النظرة الملكوتية"، بمعنى النظرة التي لا تبقى عند مستوى الظاهرة بل تتعداها إلى "الآية". بعبارة أخرى، إن طه عبد الرحمن قسم نظرة المسلم للعالم وظواهره إلى قسمين هما: النظر الملكي؛ الذي يختص بالنظر في عالم الظواهر، أي كل ما يظهر للعيان، ويكون محددا في الزمان والمكان، وحاملا لأوصاف تقوم بينها علاقات موضوعية، يدخل ضمن التفكير في "تكوين الأشياء" الذي أشرنا إليه سابقا. وهي المهمة التي يقوم بها العلماء، ويضعون انطلاقا منه، أي من التفكير في التكوين، نظريات علمية تقارب أسبابها، ويطلق عليه طه؛ النظر الملكي، لأن عالم الظواهر في القرآن هو عالم الملك مصداقا لقوله تعالى: "وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ".

والنظر الملكوتي: بمعنى الظاهرة منظورا إليها من جهة "المعنى"، والمقصود هو الحكمة التي وجب العمل بها. وهي الإضافة التي يقدمها القرآن الكريم لكل الظواهر الكونية المذكورة فيه، وهي في نفس الوقت الدعوة الربانية المقصودة من خطاب التدبر والتفكر في ملكوت الله، ويطلق عليه طه عالم الملكوت لأن النظر إلى الظواهر فيه، من جهة "المعنى" أو "الآية في القرآن، فيصبح نظرا ملكوتيا مصداقا لقوله تعالى: "أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ". فنظرة المسلم إلى الظواهر نظرة مزدوجة، الأولى أصلية؛ يتدبر بها الأشياء من جهة المعنى، فينظر إلى ما وراءها، لأن مقتضى ذلك حصول الايمان. والثانية تبعية؛ يدبر بها الأشياء، لأن مقتضى ذلك الوصول إلى العلم.

إعجاز القرآن يكمن في كونه كتاب يقدم معنىً للحياة، الأمر الذي لم تقدر عليه أية رؤية أو فلسفة كيفما كانت
إعجاز القرآن يكمن في كونه كتاب يقدم معنىً للحياة، الأمر الذي لم تقدر عليه أية رؤية أو فلسفة كيفما كانت
 

إذن نحن أمام نظرة جديدة ومختلفة عما هو موجود في أبجديات العلم بخلفيته المادية التي تقتصر على الجانب المادي منه فقط، والحال هكذا؛ فإن القول بعلمية القرآن مبررٌ من زاوية أنه يحتوي على تفسير دقيق لبعض النظريات، كما أنه –وإن لم ترد فيه ظاهرة بحد ذاتها-يزودها بسؤال الغائية، التي تبقى حلقة مفقودة في التصورات الأخرى، وحاسمة في نفعية العلم من عدمها، بالشكل الذي يجعل منه خادما للإنسانية، وليس مُسْهِما في تدميرها.

إن الحديث عن السبق القرآني في تقرير الظواهر العلمية، يوجب استحضار هذا الجانب المهم، الذي يعطي المعنى، للكون وللحياة وللإنسان. وإلا فالقرآن الكريم لا يضّم بين دفتيه فرضيات علمية معرضّة للتكذيب، أو من صنف تلك التي يتجاوزها الاكتشاف العلمي بمرور الزمن، بل يقدم حقائق علمية ثابتة لا تتغير، وخالدة في العالمين. إعجاز القرآن يكمن في كونه كتاب يقدم معنىً للحياة، الأمر الذي لم تقدر عليه أية رؤية أو فلسفة كيفما كانت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.