شعار قسم مدونات

هل انتصر الطالبان على الأمريكان؟!

blogs طالبان

حالة من الاحتفاء بالمفاوضات بين الطالبان والأمريكان. يقولون: انهزم الأمريكان أمام الأفغان كما انهزم الإنجليز وكما انهزم السوفييت، فهل حقًا انتصر الطالبان على الغرب بقيادة الولايات المتحدة؟!، وهل حقًا انتصر الأفغان من قبل على الإنجليز والسوفييت؟!

 

من يقيم الصراع على مستوى معركة عسكرية، من يجعل الصراع هو القتال المسلح في فترة زمنية محددة.. من يرى أن الثبات على المبادئ في وجه المخالف وخاصة حين يكون قويًا شديد البأس كالغرب بقيادة الأمريكان نصرًا حتمًا سيقول: انتصر الطالبان. وأنا مع هؤلاء أفاخر بأيام الأفغان في وجه الإنجليز والسوفييت والأمريكان، وأرى أن الموت على المبدأ نصر مبين. ولكن: هل يجوز لنا أن نقيم الصراع على مستوى معركة؟!، هل يصح لنا أن نصور مشهد الانتصار في القتال المسلح ثم لا نتحدث عما بعد المعركة؟ ثم: ولماذا يحدث هذا الخلل في التقييم؟!، لماذا لا نطرح سؤال التمكين وهو هدفنا الذي نتحدث عنه ليل نهار؟!

 

الخلل عند من يقيم الصراع بمعركة. الخلل عند من يقف عند المستوى التكتيكي ولا يرقى للمستوى الاستراتيجي (استراتيجية أو سياسات عليا)، الخلل عند من يغفل عن أبعاد الصراع المتشعبة ويقيمه على بعدٍ واحدٍ فقط

لم يكن الصراع مع المخالف يومًا صراعًا مسلحًا فقط، فكل أمة تجادل وتقاتل، بمعنى أن الحق والباطل يلتقيان في ساحة الجدال وساحة القتال. قال الله-تعالى ذكره-: (وهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ۖ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ)، والذين يجادلون هم الذين يقاتلون، والأصل هو الجدال ويأتي القتال كفعل مؤقت لإزاحة من لا يجدي معه بيان.. من يضل الناس بغير حق.

  

وللأسف هذا ما يفعله المخالف بنا، يطور المجتمعات الإسلامية بأدواته الثقافية لتتبنى قيم العلمانية منهجًا للحياة، ويأتي القتال في سياق إزاحة الذين يعارضون العلمنة وأهلها. بمعنى أننا فقط نقاوم، ومقاومتنا لا تجدي أكثر من تأخير التطوير، ولكنه يتمكن منا يومًا بعد يوم، وأمارة ذلك في حال المجتمعات الإسلامية والتي تتبنى قيم العلمانية منهجًا للحياة يومًا بعد يوم: في السلطة (الحكم) في الشارع، في البيوت.

 

حين انهزم الإنجليز في مطلع العشرين من الأفغان لم يحدث تمكين للدين بعدها، وكذا حين انهزم السوفييت، بل عاد الكفر من طريق آخر وتمكن من رقاب العباد والبلاد، أو على الأقل حال دون تمكن القيم الإسلامية من واقع الناس، والذين رفضوا قيم العلمانية استطاع أن يعرقلهم بخلافات داخلية، كما حدث بين المجاهدين الأفغان بعد رحيل السوفييت.

 

بوضوح تام: الخلل عند من يقيم الصراع بمعركة. الخلل عند من يقف عند المستوى التكتيكي ولا يرقى للمستوى الاستراتيجي (استراتيجية أو سياسات عليا)، الخلل عند من يغفل عن أبعاد الصراع المتشعبة ويقيمه على بعدٍ واحدٍ فقط، ولا يريد أن يجهد نفسه في التعلم، ثم هو يخدر الناس بحديثٍ عن انتصارات جزئية والمحصلة هزيمة نكراء للأمة وسير بها في ركاب عدوها.

 

المعركة في صلبها حول تحويل المجتمعات الإسلامية إلى مجتمعات علمانية، والقتال المسلح مرحلة مؤقتة، وهم يستخدمون أسلوب الكر والفر

وفي المشهد الذي نواجهه قراءة أخرى لعقلية الذين يبشرون بالنصر المبين من خلال المفاوضات مع الطالبان. هذه العقلية- إن أحسنَّا الظن بها- تبحث عن أي شيء تبث به الحماسة في صدور الناس، وتحاول رفع حالة الاكتئاب التي حلت بالجميع بعد أن غلبوا، وهذا لا ينفع، فالناس تفهم بعد حين ويصابون بمزيدٍ من الإحباط. فالأمريكان لا ينسحبون، وإنما يسلمون أجندتهم لمن يقدر على تنفيذها حتى وإن كان "مجاهدًا"، يقاتلون بيد غيرهم، ويبحثون الآن عن أمان على الأرض لمد خطوط الغاز.

 

لا يمانع الأمريكان من ترك بعض التنازلات للحلفاء مؤقتًا، وإن كانت تنازلات دينية، كما حدث في نموذج التحالف السعودي الوهابي من قبل، ثم يستخدم هذا التدين في صنع صراع والاستثمار فيه داخل الحالة الإسلامية، وقد استنبتوا داعش على أطراف طالبان، وقد طالبوا الطالبان بالتصدي للجهاد العالمي (القاعدة)، بمعنى أن يكتفي الطالبان بدولة قومية.. وهو نوع دخول تحت مظلة العلمانية العالمية، ولن يرحلوا سيبقوا في المشهد يديرون صراعًا بين حلفاء وأعداء محليين ينهك الجميع ثم يظهرون في نهايته ويفرضون رؤيتهم على الجميع، تمامًا كما فعلوا في العراق فقد أعلنوا الانسحاب ولم ينسحبوا ولم ينتصر غيرهم، وكما يفعلون في الشام.

  

الدرس يتلى من كل مكان ولا نريد أن نتعلم! لست متشائمًا، وليس لي أن أكون متشائمًا، فقد قضى الله أن الغلبة للمؤمنين في الدنيا قبل الآخرة (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر:81)، (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (المجادلة:21). ولكننا أمرنا بإحسان العمل، وما يحدث هو نوع هروب وتسطيح للأمور، ولذا لا نتعلم الدرس، ولذا نعيش حالة من الوهم. ولا نريد أن نفيق.

 

المعركة في صلبها حول تحويل المجتمعات الإسلامية إلى مجتمعات علمانية، والقتال المسلح مرحلة مؤقتة، وهم يستخدمون أسلوب الكر والفر، والسياق العام لصالحهم، وليس بيننا من يمتلك رؤية لصراع ممتد مع الغرب، أو بيننا ولا أراه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.