شعار قسم مدونات

في جدوى النقاش أو الجدل

blogs حوار

إن تلك الفكرة العتيقة النمطية القائلة بأن النقاش هو تلك الساحة حيث يعرض كل طرف حجته في موضوع ما، وينتصر في النهاية ينتصر الأقوى حجة والأكثر قدرة على الإقناع. هي فكرة مغلوطة إلى حد كبير. إن الإنسان بطبيعته لا يقبل الهزيمة حتى لو هزم. ولن يكون هدفه سوى أن يخرج بتلك الصورة الجميلة التي دخل بها المناظرة. لتكون النتيجة الحتمية أن كل طرف يخرج منتصراً بشكل أو بآخر من كل مناظرة أو نقاش يدخله. فهل نتوقف عن النقاش إذاً؟

حسناً، إن تأثير الأفكار لا يكون فورياً على الإطلاق، لكن أثرها أعمق بكثير من ما يتصور الكثير منا. يتحدث مايكل ساندل في دورته الشهيرة المنشورة على منصة edx، يتحدث كثيراً وبإسهاب عن أفكار الفيلسوف الكبير جون لوك، والتي تصف إلى حد كبير واقعنا اليوم. لكن بالعودة إلى جون نفسه نجد أنه لم يقنع إلا القليلين بنظريته في الحقوق الفردية، وعلاقة السلطة بالفرد مثلاً. كذلك كانت فكرة اسبينوزا مدانة حول حرية الاعتقاد، حتى إن كتابه الأشهر عن "الأخلاق" لم ينشر إلا بعد وفاته.

   

فبالمعايير السطحية يمكن أن نقول أن كل هؤلاء الفلاسفة -و غيرهم- فشلوا في مناظراتهم فشلاً ذريعاً، لكن الواقع أننا نعيش اليوم أفكار المهزومين في تلك المناظرات. وصيغت قوانين ونظم الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية على أساس تلك الأفكار التي لم يكتب لها الانتصار يوم عرضها أصحابها.

وعلى ذكر الهزائم، لعله من المثير للسخرية أن غاليليو حين نادى بأن الشمس هي مركز الكون، واتهم بالهرطقة. ثم تمت محاكمته؛ قرر القاضي أن الأرض هي مركز الكون، وصاح "الغوغاء"، والطيبون على حد السواء فرحا بهذا الحكم العادل، و"هزم" غاليليو. واليوم يعد الأمر مسلمة غير قابلة للنقاش. ومرة أخرى نعيش أفكار المهزومين.

إذا كانت لديك فكرة ما، عبر عنها فقط. ولا تتوقع رد فعل في اللحظة. فقط دعها تسبح عميقاً وفي خيالات الآخرين وسيأتيك أغلبهم بعد فترة مقتنعين راضين وأحيانا متعصبين للفكرة ذاتها التي أثبتوا بالمنطق والتاريخ والعلم أنها خاطئة

وفي تاريخنا العربي مثلا، تلقى الشيخ الأكبر ابن عربي أشد أنواع الإدانة، من السب والشتم وحتى التكفير، حين قال إن قلبه بستان يتسع للعالم والراهب والقسيس. واليوم يتبنى شيخ الأزهر – وغيره من الرموز الدينية المرموقة- خطاب ابن عربي الكوني المتسامح، ويرونه الوجه الحقيقي للإسلام السمح، الذي يحب أن نريه للعالم. فالفكرة هنا لم تقنع العامة، والكثير من الخاصة يوم طرحت، لكنها ظلت حية في قلوب مريدي الرجل ومحبيه حتى ثبتت عظمة فلسفة الرجل وأفكاره.

المثال الآخر يمكن أن نأخذه من حياتنا اليومية؛ بمعنى أنه لو دارت عدة نقاشات بين شخصين حول مخاطر التدخين مثلا، الأول مدخن والثاني غير مدخن. فسيدافع كل منهما باستماتة عن قناعاته. لكن بعد فترة ليس من المستبعد أن يقلع الأول ويبدأ الثاني بالتدخين. كون كل منهما قد تشبع دون وعي بأفكار الآخر، وقد شاهدت هذه الحالة تحديداً أكثر من مرة.

إنك حين تدخل نقاشاً وتتصور أنك غلبت خصمك، وانتهى الأمر. أنت في الحقيقة لا تخرج من ذلك النقاش كما دخلته على الإطلاق. وليس عملية النضج التي تستمر مع تقدمنا في السن نتيجة لمرور الساعات والأيام بقدر ماهي تحول بطيء لقناعاتنا؛ نتيجة عشرات ومئات النقاشات مع من هم أهم أكبر سنا، وأكثر تجارباً. 

وإذا كانت لديك فكرة ما، عبر عنها فقط. ولا تتوقع رد فعل في اللحظة. فقط دعها تسبح عميقاً وفي خيالات الآخرين وسيأتيك أغلبهم بعد فترة مقتنعين راضين وأحيانا متعصبين للفكرة ذاتها التي أثبتوا بالمنطق والتاريخ والعلم أنها خاطئة. وربما يمكن أن نستنتج في النهاية أن تغيير القناعات لا يرتبط فقط بدرجة الإقناع في الحجة، أو درجة المنطقية بها. وإنما بعامل الزمن أيضا، وربما هو العامل الأهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.