شعار قسم مدونات

لماذا لم يزهر الربيع العربي بعد؟

blogs ثورة يناير

سنون مضت على حادثة البوعزيزي رحمه الله. تغير فيها الكثير تماماً مثلما أنه لم يتغير فيها الكثير فاختلط الأمر على الكثير. لكن الثابت هنا هو أن الوضع بعد الربيع العربي ليس كما هو قبله. تسعى هذه المقالة إلى توضيح بعض الالتباسات حول ماهية الربيع العربي لتشخيص وضعه الراهن، ومن ثم تضع تصوراً لما ينقص الربيع العربي حتى يحقق أهدافه. لم أصدق ما كنت أشاهده عندما خلع حسني مبارك بعد فرار زين العابدين بن علي. طاغيتان عاتيتان يسقطان في أسابيع قليلة من احتجاجات شعبية. كان هناك استعجال مبالغ فيه في الفرح، لأن حسنى وزين ما هما إلا واجهتين لما هو أكبر من ذلك بكثير. ربما يظن البعض أنها الدولة العميقة المتمثلة في الأجهزة الأمنية وتحالفات الإعلام ورجال الإعلام، لكن الأمر يتعدى ذلك.

ذات مرة اطلعت على وثيقة سربها موقع ويكيليكس تثبت أن أحد الزعماء العرب أرسل قائمة أولية للسفير الأمريكي في بلده تضم أسماء مرشحة لمجلس الوزراء القادم آنذاك. وقد أعطى السفير الأمريكي توجيهاته حول الأسماء لا سيما التي ستتولى الحقائب "السيادية". يثير حزني مصطلح "الحقائب السيادية" مثلما يثير سخريتي. فأي سيادة هذه التي يقررها السفير الأمريكي؟! ولما كانت أنظمتنا العربية توابع لقوى دولية "عظمى" فإن السفراء البريطاني والروسي والفرنسي، وقريباً الصيني، لهم الأثر البالغ في توجيه القيادات الملهمة. أما عن تدخلات صندوق النقد الدولي فحدث ولا حرج. فهي تطال سياسة الاقتصاد والتعليم والضرائب والخصخصة. فمن كانت دولته تحت حكم صندوق النقد الدولي فهي بلا شك تحت الحكم الأمريكي بشكل مباشر وغير مباشر لأن أمريكا هي أكبر المساهمين في صندوق النقد الدولي وأكبر المتحكمين في قراراته لإخضاع الشعوب.

مشكلتنا في التخلص من الاستعمار وليس عملائه فقط
من أبرز أساليب الدول العميقة في إلهاء الشعوب العربية هو إغراقها بالجزئيات التي تلهيهم لفترات معينة وتصرف أنظارهم عن الأهداف السامية التي ينشدها الشارع. ربما تكون تلك من استراتيجيات إلهاء الشعوب التي تحدث عنها نعوم تشوموسكي

لما ثار الشباب العربي في موجات ربيعهم كانوا، ولا يزالون، يعتقدون أنهم يواجهون أنظمة ديكتاتورية، ثم تطور مفهومهم ليصل إلى الدولة العميقة التي تتخذ من الزعامات دمى لتدير دفة الأمر. لكن الحقيقة أن الدول العميقة تدير أموروها من سرقة ونهب وظلم لتحقيق مصالحها مقابل إطاعة أوامر سفراء الدول العظمى في عواصمها لغايات تحطيم أي نهضة محتملة لأمتنا. وفي الوقت الذي تشعر فيه الدول العظمى أن شخصية ما من الدولة العميقة أو إحدى الدمى التي تحركها فوق مسرح السياسة قد انتهى مفعولها فإنها لن تتوانى في إلقائه إلى مزبلة التاريخ غير مأسوف عليه.

وأنا أتابع ثورة يناير المصرية كنت أشعر أن هناك أمر ما يسير بالاتجاه الخاطئ. كيف يطلب الثوار من باراك أوباما أن يساعدهم في التخلص من حسني مبارك؟! وكيف وقف "الجيش والشعب إيد وحدة" لإسقاط حسني، مع أن معظم قيادات الجيش كانت في أمريكا أثناء الثورة؟! وكيف لمن هو كذلك، وألقى به السيسي في السجن يستنهض الشعب ليثور ضد ظلم السيسي، وهو دمية مثل السيسي لو استلم مكانه؟! وهنا لنا عبرة في تصريح السفيرة الأمريكية السابقة إلى القاهرة أن الجيش هو من يغير القادة في مصر، ولو أراد سيغير السيسي، لكن من الذي يغير قيادات الجيش؟

لست من "المطبلين" للطيب أردوغان، ولي عليه ملاحظات تتعلق بسياسته الداخلية من تحجيم للحريات وقمع للصحافة بالإضافة إلى تغلغل رجال الأعمال في مفاصل حزبه، ولا أتفق أبداً مع الذين يعتبرونه "السلطان" و"الخليفة". لكن على مستوى السياسية الخارجية أدرك تماماً أن تركيا تخوض معركة تحرر من مستعمريها. لقد كانت تركيا تحكم بجرة قلم من السفير الأمريكي. لكنها أصبحت تطلب أن يتم التعامل بندية، وهذا ما أقلق المستعمر فدبر ودعم الانقلاب. ولنا شاهد كبير في صفقة طائرات إف 35 والعجرفة الأمريكية في التعامل مع تركيا جراء شرائها صواريخ أس 400. ليست المشكلة هنا فينة أو استراتيجية، لأن هناك دولاً في مشروع الطائرات تملك أو ستملك ذات الصواريخ، ولأن تركيا أصبحت تتعامل مع روسيا والصين بالعملات المحلية بدلاً من الدولار، ولأن تركيا تجنبت الفخ الذي أوقعتها به أمريكا جراء إسقاط المقاتلات الروسية، ولأن تركيا لم ترضخ لحرب العملات التي شنها عليها "الكاوبوي" دونالد ترمب، وساعدته بها أنظمة عربية تحكم من قبل السفراء الأمريكان في عواصمها.

وحتى تستطيع تركيا أن تمضي في طريق التحرر من المستعمر تحتاج إلى استنهاض الوعي الداخلي بمعطيات السياسة الدولية والتصالح بين مكونات الشعب والإفراج عن المعتقلين السياسيين بدلاً من حالة الاستقطاب التي أفرزها أو فرضت على أردوغان وأتباعه حتى وصلت إلى عقر داره حزب العدالة والتنمية. لكن الشعب العربي ما زال غير مدرك لتلك الحقائق باستثناء مبشرات خير في الجزائر حيث نشاهد نضجاً لا مثيل له بين الشعوب العربية. لقد أدرك الشارع أن الدولة كانت ولا تزال تدار لحساب فرنسا التي تنهب خيراتها. وقد أظهر الشارع الجزائري نضوجاً في فهم الدولة العميقة التي تعمل لحساب باريس مقابل المشاركة في النهب، وأظنه يمضي بالاتجاه الصحيح في إدراك كيفية التعامل مع تلك الأمور من خلال رفضه للانتخابات التي يتم الترويج لها للمحافظة على التبعية واستبدال الأشباه بالأشباه.

ربيع الشعوب يجب أن يكون عابراً للحدود السياسية التي رسمها المستعمر

من أبرز عناصر نجاح المستعمرين في استدامة استعمارهم أنهم أدركوا حقيقتين هامتين. أولها أن تجزئة العالم العربي لدويلات يجعله أكثر ضعفاً وأسهل حكماً في زمن انتهى فيه الاستعمار بالجيوش. وثانيها، أن نشر الفرقة بين سكان تلك الدول وأنظمتها يجعل الجار منشغلاً في جاره. فالعلاقة بين المغرب والجزائر متوترة، وحصار قطر من قبل بعض جيرانها، والحدود بين مصر والسودان، والفتنة بين الفلسطينيين والأردنيين، كلها أمثلة على نجاح المستعمر في إحكام قبضته على المطقة برمتها. ورغم أن الأنظمة الدمى تسهم في تحريض الشعوب على بعضها، إلا أننا رأينا كيف يتعاطف السوريون وهم تحت القصف مع المصريين في مظاهراتهم الأخيرة، وكيف أصبح الجزائريون أكثر نضجاً في نبذ الخلاف مع المغاربة. ولتحقيق رؤية عابرة للحدود على الشعب العربي أن يبني تصوراً لمستقبله بعيداً عن تصنيف المستعمر، وبعيداً عن حدود الدولة القطرية التي رسمتها الدول العظمى سعياً منها لتفتيت أية كيانات يمكنها المنافسة لا سيما إن كانت تتمتع بأغلبية مسلمة. فبينما أسهمت القوى الاستعمارية في تفتت الدول العربية منعت بريطانيا "بطريقة ديموقراطية" استقلال أسكوتلندا عن المملكة المتحدة وأستراليا عن التاج الملكي، وتجهد أمريكا لمنع دعوات مماثلة في كاليفورنيا، وتقاتل الصين للإبقاء على هونج كونج، ومنعت روسيا استقلال الشيشان، وألغت الهند الحكم الذاتي في كشمير بعد أن تسلم كبار قاداتها أوسمة من عوصم عربية! كل هذه مؤشرات على أن المستهدف هو وحدة أمتنا.

الوعي تجاه استراتيجيات الإلهاء عن الأهداف السامية

من أبرز أساليب الدول العميقة في إلهاء الشعوب العربية هو إغراقها بالجزئيات التي تلهيهم لفترات معينة وتصرف أنظارهم عن الأهداف السامية التي ينشدها الشارع. ربما تكون تلك من استراتيجيات إلهاء الشعوب التي تحدث عنها نعوم تشوموسكي، بالإضافة إلى البرامج التلفزيونية غير الهادفة، وافتعال المشاكل، والتدرج في تطبيق سياسات طويلة المدى مثل سلخ الشعوب عن هويتها من خلال الانحطاط في أنظمة التعليم، وابتكار الأعداء الذين يهددون "الأمن القومي"، واختزال حب الوطن بحب شخص الزعيم، إلى غيرها من الأساليب التي لا يتسع المقام لذكرها. الأهم من ذلك كله هو الحفاظ الدائم على الهدف السامي المتمثل بالحرية والتحرر من جميع التبعيات وليس من شخص ليتم استبداله بآخر.

عدم اليأس فالربيع لا يزال في أوله

أصيب الكثير من المخلصين بحالة من اليأس بعد انتصار الثوارت المضادة في مصر، واليمن، وليبيا. لكن المشهد الكلي يحتم علينا أن نعلم أن الحال لم يعد كما كان قبل ثورة تونس. حتى الأنظمة المستبدة تعلم تمام العلم أن التحرير قادم لا محالة لكنها تعمل على إطالة الأمد قدر الإمكان. فنظام السيسي يلوذ بالعاصمة الإدارية ليحصن نفسه من الشعب الذي لا بد له أن يعاود الكرات، وحفتر سيسقط في ليبيا رغم أنه أعاق نمو ثورتها، والمجلس العسكري في السودان سيندثر بوعي المواطنين، وسيعود اليمنيون يداً واحدة في وجه التبعية الإيرانية من جهة والصهيوأمريكية من جهة أخرى. الأهم من ذلك كله، أن الربيع العربي استغرق نحو تسعين سنة منذ سقوط الدولة العثمانية ليبدأ، فلا بد له من سنوات أخرى كثيرة لتنضج ثماره.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.