شعار قسم مدونات

الدبلوماسية التركية.. سياسة عابرة للحدود لإقامة قوة فاعلة

blogs أردوغان

تُرسخ الدبلوماسية التركية دورها الإقليمي المتعاظم في المنطقة، القائم على إخراج تركيا من دائرة الانغلاق على الذات، إلى دائرة الفعل الإقليمي منذ مطلع الألفية الجديدة، سعياً لحجز موقع متقدم في العالم متعدد الاقطاب قيد التشكل، والذي يستعد لوراثة تركة أمريكا القطب العالمي الأوحد.

 

وفي هذا الإطار يمكن تفسير العملية التركية على الحدود الشمالية لسوريا، والتي تسعى لتعطيل التقدم التركي بالصعود في سلم القوة الإقليمية، فمنذ عام 2002 ومع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة بدأت الدولة التركية بإعادة صياغة ذاتها من خلال مجموعة خطوات بنوية، أدت إلى ولادة ما يمكن أن نصطلح عليه بـ"الجمهورية التركية الثانية"، وارتكزت الدبلوماسية الجديدة على جملة أمور؛ أهمها:

 

أولاً: داخلياً

من مسلمات قوة الدول في محيطها الإقليمي؛ الاعتماد على بنية سياسية واقتصادية واجتماعية مستقرة داخليا، لتكون بحالة استقرار تؤهلها لممارسة فعل دبلوماسي دولي مؤثر، وقد اتخذ حزب العدالة والتنمية مجموعة خطوات على الصعيد الداخلي، أدت بمجلها إلى شكل من أشكال الاستقرار، ساعد الدولة في بناء رؤية دبلوماسية قوية، وأهمها:

 

1- معالجة مشكلة الهوية التركية

فتركيا كانت تعاني من مشكلة ضياع الهوية منذ تأسيس دولتها الحديثة، فهي تنكرت للخلفية العثمانية الإسلامية على أمل بناء صورة لتركيا المعاصرة القائمة على الرؤية الغربية، وفي المحصلة لم تحصل على الاعتراف الغربي الكامل بهذه الصورة، حيث استمر الغرب في التعامل معها على أنها وريث الدولة التي انتهكت كبريائهم ذات يوم، ولا هي تمكنت من نزع الخلفية الثقافية من نفوس المجتمع التركي، الأمر الذي ساهم في تشكيل شخصية ازدواجية.

   

  

تمكنت تركيا الحديثة من تجاوزها عبر ترسيخ مفهوم عدم التعارض بين الهويتين، فإحياء الإرث العثماني يرافقه تمسك بمعاصرة الشخصية التركية، وهذه الحالة الجديدة انعكست في دبلوماسية وافقت بين التوجه نحو الاتحاد الأوربي، والحفاظ على العمق الاستراتيجي الممتد في العالمين الإسلامي والعربي، دون تعارض بينهما.

 

2- التركيز على إقامة دعائم البنية الاقتصادية والتنمية البشرية:

وهو ما ترجم في سياسة نشطة للصعود إلى مصاف الدول الصناعية الكبرى، وانعكس في نمو مطرد على شكل طفرات في البنى التحتية، وفي ارتفاع دخل المواطن التركي، ما جعل الدولة تقف على أرضية صلبة في مقاربتها الدبلوماسية الخارجية.

  

3- رفع مستوى الإنفاق الدفاعي:

والسعي لتحقيق الاكتفاء الذاتي، والتحول الى الصناعات العسكرية، الأمر الذي ساعد على تحول الجيش التركي لقوة عسكرية ضاربة، ومؤهلة للاستقلال عن الاحلاف المكبلة، مثل حلف شمال الأطلسي "النيتو".

 

4- إدارة الأزمة الكردية بأسلوب جديد:

يعتمد مقاربة إحلال السلام والوصول إلى تفاهمات مع المكون الكردي، واستعمال أدوات التنمية المناطقية، ورفع مظاهر الإقصاء والتهميش والعزل، التي جعلت القضية الكردية ورقة بيد اللاعبين الدوليين والإقليميين، ورغم تعثر المشروع الكلي للوصول إلى سلام دائم، إلا أن هذه السياسة آتت أكلها نسبياً، وقللت من فرص استخدام هذه القضية التي استنفدت موارد الدولة التركية منذ تأسيسها.

 

ثانياً: خارجية

استقرار البناء الداخلي النسبي، أهل صانع القرار التركي لوضع استراتيجية دبلوماسية، أرى أنها تعتمد رؤية التحول للعب دوري إقليمي في عالم متعدد الأقطاب بحلول عام 2030، آخذاً بنظر الاعتبار التفاعلات الدولية والإقليمية؛ وأهم ركائزه:

 

1- اعتماد الدبلوماسية الإيقاعية في التعامل مع العامل الدولي، بعدم الاعتماد على طرف دولي واحد، وحصر خيارات القوة بهذا الطرف، ومن خلال اعتماد رؤية متوازنة تقلبت حركة العلاقات والتحالفات شرقاً وغرباً بحسب ما تقتضيه المصلحة، وبما يحقق الهدف من خلال مساومة الأطراف الدولية على مصالحها في الإقليم والعالم.

 

2- التعامل مع المحيط الإقليمي والدولي على أساس براغماتي، وليس على أساس ايدلوجي، فرغم أن تركيا وظفت الهوية الإسلامية والعمق التاريخي العثماني في صناعة قوتها وإضفاء الشرعية على هذا الاستحقاق، إلا أنها تعاملت في الغالب مع مختلف القضايا، خصوصا الفرعية بدرجة عالية من البراغماتية، ووضعت موازنة بين المصالح والمفاسد.

   undefined

  

3- الاعتماد على الدبلوماسية الناعمة في طريق تحقيق مفردات القوة، هذه الرؤية جعلت صانع القرار التركي لا يعتمد على الوسائل التقليدية في رسم وممارسة الدبلوماسية، فانشأ دبلوماسية متعددة الأوجه شارك فيها مؤسسات الفكر والرأي، والمنظمات غير الحكومية، ومؤسسات الإغاثة، وشاركت جميع هذه الدوائر المؤسسات التقليدية للخارجية التركية في صناعة مفردات القوة الدبلوماسية.

 

فساهمت المسلسلات التركية على سبيل المثال، في مد جسور ثقافية مع مجتمعات الشرق الأوسط، سواء الرومانسية منها مثل مسلسلي (عاصي ونور) أو التاريخية مثل مسلسلي (أرطغرل والسلطان عبد الحميد)، وعلى الصعيد الإنساني، ساهمت المنظمات غير الحكومية في إرساء صورة تركيا الدولة القوية، القادرة على مد يد العون لشعوب المنطقة، ومن أهم تلك المؤسسات وكالة التعاون والتنسيق التركية "تيكا"، وكذلك الهلال الأحمر التركي، ورئاسة إدارة الطوارئ، ولاننسى الدور الكبير والفاعل لمنظمة (أي ها ها)، وعبر هذه المنظمات غير الحكومية بدأت تركيا بالتدخل الإنساني في أغلب مناطق الأزمات في العالم.

  

التحديات

الفرقاء السياسيون في العالم، لم يكونوا غافلين عن التحولات البنيوية في السياسية التركية، وطموحات التحول إلى قوة فاعلة إقليمية، الأمر الذي دفع دول الاتحاد الأوربي، والولايات المتحدة الأمريكية، إلى اتخاذ سياسات تعمل على وقف الطموح التركي في الصعود، عبر خطوات كثيرة لا يمكن حصرها في هذه العُجالة، لكنها شملت كل الصعد؛ فعلى الصعيد السياسي عرقل الاتحاد الأوربي مفاوضات انضمام تركيا إليه، حتى الاتفاقية التي حمت دوله من تدفق اللاجئين لم تنفذ كاملة، وعلى الصعيد السياسي عملت أمريكا على زعزعة الاقتصاد التركي، وهز ركائزه البنيوية، ولم تغفل هذه الإجراءات المضادة مسالة الاستنزاف الأمني والعسكري، فكان دعم الأكراد في خاصرة تركيا الجنوبية الرخوة عامل زعزعة للاستقرار التركي، وعنصر تهديد لوحدة الأراضي التركية.

 

وما كان لتركيا أن تتعامل مع الملف الكردي المتعاظم على حدودها عبر سياسة الانكفاء التي تأسست عليها الجمهورية، بل بعقلية المبادرة والتحدي، مع مراعاة أقصى درجات البراغماتية في التعاطي مع الملف العسكري، فالدبلوماسية التركية لا تعتمد المغامرة في مسالة التدخل العسكري خارج الحدود، وهي بذلك راعت كافت الفواعل الدولية، مثل الامم المتحدة، والقوة الروسية، والقوة الأمريكية، وهي تعاملت مع لحظة الفصام النكد بين إدارة الرئيس دونالد ترمب، والسياسية التقليدية الأمريكية التي أرسى قواعدها كيسنجر، فاستغلت هذه الجزئية استغلاً أمثل، فبينما أعطى البيت الأبيض الضوء الأخضر للعملية التركية، تعمل المؤسسات التي تعمل بالرؤية التقليدية القائمة على دعم الأكراد والإبقاء عليهم كورقة زعزعة للاستقرار في الإقليم، بما يجعلها قادرة على المساومة سياسياً، على صياغة قانون عقوبات ضد أنقرة لا أحد يعرف كيف سيتعامل معه ترمب، وهل سيشهر الفيتو في وجهه، كما فعل مع قرارات الكونغرس ضد السعودية.

  

وفي المحصلة النهائية، فإن نجاح العملية العسكرية التركية سيرسخ وجودها كقوة إقليمية فاعلة ومؤثرة في القرار الدولي، وهذا ما يفسر اصطفاف السعودية وإيران ومصر وقبرص واليونان ضد تركيا، فيما تعمل دول الاتحاد الأوربي على وضع العصي في عجلة العملية العسكرية، وتقف الدول الكبرى واشنطن وموسكو موقف المتفرج، وهو موقف يذكرنا بموقفهما إزاء العدوان الثلاثي على مصر، وتبقى الأيام القادمة حبلى بالتوقعات والمفاجئات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.