شعار قسم مدونات

هل ينجح سور الصين في صد بربرية العصر الحديث؟

blogs سور الصين العظيم

من طرائف ما سمعت مؤخرا حول سور الصين العظيم والذي يسميه الصينيون /تشانغ تشنغ/ أي السور الطويل وكأن التعظيم والتبجيل من سمات أمتنا العظيمة فقط، أقول إن من طرائف ما بلغني أن هذا السور والذي تم بناؤه على مراحل كان هدف إنشائه في بادئ الأمر هو صد غزوات وهجمات الشعوب البربرية عن ممالك الصين التي كانت متناحرة هي الأخرى، ولكن في النهاية استطاع شعب شيونغنو اختراق السور ثم ماذا؟ وحد شعب شيونغنو وهم أسلاف قومية الهان الحاليين ممالك الصين المتناحرة تحت قيادة واحدة استطاعت تحقيق كثير من الانجازات والازدهار على مدى قرون، ولأن التاريخ – كما علَّمَنا- يدونه المنتصر انتفت صفات البربرية والهمجية عن غزاة الأمس وأصبحوا ملوك وأباطرة اليوم.

  

في عصرنا الحالي تغيرت المفاهيم حول القوة والهيمنة، ونحن الآن أمام صراع أنا شخصياً لا أستطيع فهمه أو استيعابهـ فمن تفسير يتهم الماسونية وحكومات العالم الخفية والاوليغارشية العالمية وكيف تمارس تلك القوى الظلامية لعبتها القذرة على رقعة العالم كما تمارس لعبة الشطرنج، إلى تفسير ماركسي واضح يشرح الأمر بشكل أبسط ويرد الصراع إلى الطبقات والعامل الاقتصادي ورأس المال والسوق.

 

ولكن الأمر الذي لا يخفى على أحد هو مدى نفاق المجتمع الدولي تجاه كثير من القضايا، فكثير من القرارات الدولية التي تتخذ ضد دول كالعقوبات الاقتصادية من قبل منظمات دولية أو دول مهيمنة كالولايات المتحدة الأمريكية ضد دول أخرى، ومهما كانت المبررات فإن الغالبية العظمى من الناس تعلم أن مردها إلى التنافس الاقتصادي، ولا ننسى الهيمنة السياسية ولكن الأخيرة هي مجرد أداة لخدمة العامل الأول الاقتصاد الذي تشكل السياسة وجها من وجوهه.

 

تعطينا بعض الدول دروسا في مواجهة الهيمنة كالصين وإيران وتركيا، وفي الوقت ذاته تثبت الدول المهيمنة إن قوتها الحقيقية تكمن في خوف الآخر، فلا يتوقع أحد مثلا أن الولايات المتحدة الأمريكية تفرض هيمنتها وقوتها من خلال استخدام ترسانتها النووية، وإلا لكنا انقرضنا منذ زمن، ولكنها ربما تلوح بها.

    undefined

  

إذن هل نتوقع أن تستمر موازين القوى وفق النموذج الحالي إلى الأبد، فلو عدنا إلى الماضي وتأملنا في أسباب قوة أمة من الأمم واسقطنا تلك الأسباب على الحاضر المعاش، لكانت دول أفريقيا دولا عظمى ومن أقوى الدول، ففي زمن كان فيه العدد هو العامل المهيمن، تغيرت الموازين فاستخدم الأوروبي عقله وابتكر التكنولوجيا ليستعبد قارة أفريقيا لقرون.

    

الحرب الاقتصادية

تدور الآن حرب اقتصادية طاحنة بين دول الغرب بقيادة الولايات المتحدة الامريكية من جهة، والصين تحديدا تساندها دول المعسكر الشرقي القديم، وإيران، والسؤال الذي يدور في اذهان كثيرين هو إلى أي مدى ستذهب تلك الحرب، ومتى ستنتهي، ومن سيفوز، في اعتقادي أننا أمام تحول كبير في موازين القوى، بل في مفهوم القوة تحديداً، فالرأسمالية بدأت تشيخ ويذهب بريقها وتنكشف عيوبها، فلم تعد الرأسمالية تلك الفتاة الشابة الجميلة المغرية، أصبحت عجوزا تثقلها الديون ويفر منها المعجبون، والآلة الإعلامية الضخمة أصبحت صدئة تصرصر أثناء عملها، ولم يعد أحد يصدقها، في المقابل فإن الحرية أيقونة البلدان الغربية على رأسهم أمريكا، أصبحت إما تُنتهك من قبل الحكومة بحجة الأمن القومي ومحاربة الارهاب، أو تستغل فعلاً من قبل المتمردين الذين أثقلهم الالتزام تجاه مجتمعهم وأصبحوا ناقمين عليه.

 

وأمام ذلك وأمام ارتفاع معدلات الجرائم والجهل وانتشار الأمية، نرى الصين منطلقة في مضمار لا ينافسها فيه إلا قلة، ورغم أن التنمية والتعليم وارتفاع مستوى دخل الفرد في الصين لازال متباينا ويراوح في مناطق حضرية محددة، نجد ان الحكومة مندفعة وبقوة نحو إنعاش اقتصاد الصين ككل ليتساوى في كافة المقاطعات بنفس المستوى، وإذا ما خذنا بعين الاعتبار هذه التطلعات الصينية وإدارة شي جي بينغ للأمة الصينية وقارنّاها بالإدارة الامريكية الحالية وتداخلات المصالح الاسرية للرئيس الامريكي مع الحلم الأمريكي، وإدارة صهرة لملفات حساسة والهجمات التويترية التي يشنها ترمب بين الفينة والأخرى على رؤساء دول بجانب أعضاء بارزين في إدارته وصراع الدولة العميقة مع ترمب، نجد أننا نقف أمام تباين رهيب في الاستراتيجيات الدولية والسلوكيات الدبلوماسية.

 

فهل تنجح العقلية الكوشنرية في كبح جماح التنين الصيني المندفع صاحب الهدف الواضح والتخطيط المحكم؟ وهل يكفي التهديد والوعيد والعقوبات في اجهاض مشروع اعادة تشكيل القوى والتحالفات، والذي كما أسلفنا استطاعت دول أن تضرب به عرض الحائط وها هي لم تتأثر كما اعتقدنا بتلك التهديدات.

    

نهوض التنين الصيني

سأورد هنا قصة وقفت عليها شخصياً تلخص إلى اين تذهب الصين، أثناء زيارة سابقة للصين تعرفت على طبيب صيني شاب، متزوج ولديه بنت واحدة، يسكن هو وزوجته وابنته ووالد ووالدة زوجته في شقة صغيرة ذات ثلاث غرف في الدور السادس ولا يوجد بها مصعد، ولكنها تقع في أحد أرقى احياء بكين، وعندما زرت الصين مؤخراً دعاني ذلك الصديق لتناول الشاي الصيني في منزله وسعدت بذلك وعندما جلسنا نتبادل أطراف الحديث، ونحتسي الشاي، أخبرني أنه اشترى هذه الشقة بمبلغ أربعة ملايين يوان وهو مبلغ كبير جدا لشقة بهذا الحجم، ثم أخبرني أنه سبق وأن اشترى شقة قريبة من المستشفى الذي يعمل به ثم قام بتأجيرها واشترى هذه الشقة وانتقل اليها، ولكن لماذا!

   

  

لتحصل ابنته ذات الثلاث سنوات على تعليم جيد! يقول صديقي الطبيب إن التعليم لازال متفاوت بين المدارس وإذا كان الأب يريد لأبنائه تعليما جيدا فهناك مدارس محددة تقدم تعليما جيدا ولا يستطيع أحد أن يرتاد المدارس ذات المخرجات الجيدة إلا إذا كان يسكن ضمن منطقة قريبة من المدرسة، ولذلك يقول صديقي الطبيب، أنا اتنقل وفق متطلبات دراسة ابنتي وعندما تذهب ابنتي للجامعة سوف اشتري منزلا كبيرا بالقرب من جامعتها وأقوم بتأجير هذه الشقة.

  

تعطينا هذه القصة عدة دلالات، فالتعليم متفاوت إلى حد كبير حتى في المدن الرئيسية، والأمر كذلك على أكثر من صعيد، فمستوى الدخل والخدمات الحكومية والتعليم والصحة في تباين كبير، ناهيك عن ملف الانفتاح ومحاولة /لبرلة/ الشيوعية إن صح التعبير وفق الطريقة الصينية، بعد أن انتقل اليسار اللينيني إلى اليمين وفق نموذج جديد تتشدد فيه الاجراءات والمراقبة والبيروقراطية بحجة حفظ الأمن واستقرار البلاد والعباد.

   

ولكننا في المقابل أمام أمرين مهمين، حكومة تبذل جهدها بوجود ما يفوق المليار إنسان يحتاجون للرعاية والعناية والغذاء والدواء والماء و(الأمن والاستقرار)، وشعب مؤمن بالمشروع الصيني ولديه الدافع والإصرار والعزيمة ليتفوق وينهض باستثمار العلم والمعرفة والتكنولوجيا والأهم من ذلك التواضع، وهي السمة التي تميز هذا الشعب، ففي اعتقادي فإن التواضع والذي تفتقده كثير من الشعوب هو أحد أسرار نهضة الصين. نحن كشعوب عربية نراقب هذا الصراع وكأننا في معزل عنه في حين أننا قاب قوسين أو أدنى منه، ونقع بين كماشتيه.

   

يجب علينا استقاء الدروس من أخطاء الآخرين والاستفادة من تجارب الناجحين والأخذ بأسباب النهوض، فشعب كالشعب الصيني يمتلك هذه الإرادة وهذه الروح والدافع للتعليم والتطور والتقدم، رغم ازدراء الكثيرين له إلا أن ثقته بنفسه وتواضعه سمتان لم تزعزعهما ظنون الآخرين، ولهم في اليابان وكوريا وسنغافورا أسوة حسنة، وهنا أتذكر قصة سمعتها منذ زمن تجسد الثقة بالنفس والاخلاص في العمل للموظف الأمريكي، تقول القصة إن موظفا بسيطا يعمل في مجال التنظيف في وكالة ناسا الفضائية، عندما سأله أحد الأشخاص عن طبيعة عمله قال: "أنا أساعد في إطلاق الصواريخ للفضاء"، ولكن يبدو أن هذا الموظف تقاعد ولم يعد موجودا وأصبح المثال الجديد لموظف صيني يعمل في إحدى شركات الانشاءات عندما سئل عن طبيعة عمله قال" أنا أساعد في بناء طريق الحرير".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.