شعار قسم مدونات

رسالة ابن تيمية إلى الشيعة في العراق

ابن تيمية

لا يذكر اسم ابن تيمية وعلاقته بالشيعة، إلا ويبرز إلى السطح دائما، كتابه الضخم الموسوم بـ «منهاج السنة النبوية في رد كلام الشيعة والقدرية»، والذي رد فيه على ابن المطهر الحلي، حيث يعتبر مرجعا جامعا لمن يسترشد به في مسائل الرد على الشيعة، أو الإحاطة بهم، وكذا عقائد المعتزلة وغيرها من الفرق. ففي المؤلف ثمة الكثير من مقالات الفرق والفلاسفة، بما يبقي الكثيرون عيالا على ابن تيمية في كتابه هذا، مثلما أن الشيعة عيال على كتاب الحلي. المهم في موضوعنا هذا؛ مما قد لا يعلمه الكثيرون، أن لابن تيمية رسالة خاصة بعث بها إلى شيعة العراق، طبعت ضمن «مجموعة جامع المسائل». والسؤال هو: ما أهمية هذه الرسالة؟ وما هو موضوعها؟ وكيف عرض ابن تيمية «فكرته السلفية» لأناس خالفوه في المعتقد؟

بداية؛ نقول بأن الرسالة منشورة ضمن «مجموعة جامع المسائل» لشيخ الإسلام ابن تيمية، (تحقيق محمد عزير شمس، ضمن المجموعة الثالثة، ص ٦٩) تحت اسم «رسالة إلى المنسوبين إلى التشيع وغيرهم في العراق ومشهد المنتظر»، ومن عنوانها، يتبين موضوعها، بأنها رسالة لشريحة خاصة من الناس، في بلد مخصوص. أما أهميتها فتكمن في (1) طريقة العرض، و(2) «المحاورة» التي تبناها الشيخ مع الشيعة، وتحديدا شيعة العراق، حول كينونة «المهدي المنتظر»، والتي اعتقد الكثير من الشيعة بأنه كائن في «سرداب سامراء».

إذن الرسالة، مع أهميتها ضمن مؤلفات شيخ الإسلام، تركزت في قضية محددة جدا، لكنها تميزت بقوة طرح الشيخ، في استحضار الأدلة النصية القوية، وعرضها بطريقته المعهودة، ناقضا الكثير من المعتقدات، والأفكار الخاطئة من خلال هذه النصوص، مستعينا بما يقارب ٦٦ آية، و١٠٢ حديثا تقريبا من روايات ترجع لآل البيت، محاصرا خصومه، وسادّا لأية ثغرة يمكن للخصم النفاذ منها.

العرض العام للرسالة:
يؤصل الشيخ لأصول الجماعة في الإسلام، والتي هي أصول الإسلام، فيقول: «فهذه أصول الإسلام التي هي: (1) الكتاب و(2) الحكمة (السنة) و(3) الاعتصام بحبل الله جميعا». ومن هنا يدخل إلى ما يريد تأصيله وتفهيمه لمن بعث لهم رسالته

بعيدا عن الندية ولغة الخصوم والعداء، فقد استهل الشيخ رسالته بلغة الداعية والرحمة والإحسان، قائلا:(هذا الكتاب إلى من يصل إليه من الإخوان المؤمنين، الذين يتولون الله ورسوله والذين آمنوا والذين يقيمون الصلاة..). فهكذا هو منطق الدعوة، خاصة لمن كان من المسلمين، التقريب وليس التنفير والتفريق والتكفير أو التفسيق والتبديع. فالمطلوب من ورثة الأنبياء، علماء وفقهاء ودعاة، التلطف مع خلق الله وعباده، ودعوتهم بالحسنى إلى ما ينجيهم، وليس تركهم في ضلال أو انحراف يودي بهم. فهذا واجبهم المؤكد في إرشاد الناس وهدايتهم وتعليمهم وتزكيتهم، تماما كما هي دعوى الأنبياء. وبالتأكيد كان شيخ الإسلام من هذا الطراز في الدعوة إلى الله.

وفي خطوة منهجية ذكية، يلجأ ابن تيمية إلى منطق الحوار من داخل المنظومة المعرفية للطرف الآخر، وليس من خارجها، مما اعتاد الشيعة النفور منه. كان أول الثوابت هو التأكيد على أن من لوازم محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، «الطاعة لله ولرسوله»، باعتبارهما مدار الإيمان والدين كله. لكن، وهنا قوة الأطروحة، هو دعم الأقوال والأفكار بالنصوص والوقائع التاريخية والأدلة التي نطق بها أهل البيت دون سواهم. أي الاحتجاج بما يؤمنون به، لا بما ينفرون عنه. وفي السياق يذكر ابن تيمية حديثا رواه الإمام علي رضي الله عنه يقول فيه: «إنما الطاعة في المعروف».

بعد تأصيله الطاعة والمحبة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وكعادته في البيان والتميز؛ يعرض ابن تيمية لمسألة اتباع الكتاب والسنة، مشيرا إلى أن «الحكمة» الواردة في الكثير من الآيات إنما هي «السنة» وليس شيء آخر. وفي السياق يستشهد بالآية التي وردت في سورة الأحزاب، فيقول في معرض استشهاده: (فقال لأزواج نبيه: واذكرن..، والذي كان يتلوه رسوله صلى الله عليه وسلم، في بيوت أزواجه: كتاب الله والحكمة، فعلى المسلمين أن يتعلموا هذا وهذا.)، ثم يستشهد بحديث علي رضي الله عنه في الترمذي: (عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب-رضي الله عنه-..). ثم يأمر بالجماعة والائتلاف مصداقا للكتاب والسنة، مع التشدد في الأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك جاء بعد تأصيله الطاعة والمحبة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم..

تأصيل تجميع الأمة

ويؤصل الشيخ لأصول الجماعة في الإسلام، والتي هي أصول الإسلام، فيقول: «فهذه أصول الإسلام التي هي: (1) الكتاب و(2) الحكمة (السنة) و(3) الاعتصام بحبل الله جميعا». ومن هنا يدخل إلى ما يريد تأصيله وتفهيمه لمن بعث لهم رسالته، فهؤلاء -لا شك- معادون للصحابة، وخاصة الخلفاء الثلاثة، ولأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فلابد من المحاور أن يعرف كيف يقرب الصحابة «المختلف فيه» لدى هؤلاء «المعارض»، وكيف يقول كلاما لا ينكروه عليه، بل ويكون مقبولا عندهم، أو على الأقل يُحدث عندهم أثرا في طريقة التفكير التي هم عليها، مما يجعلهم يعيدون النظر في بعض أو كثير من مقالاتهم. لهذا وغيره رأيناه يسارع -مستلا الفوائد من الآية- إلى القول بأن: «الله أوجب فيها حرمة خلفائه وأهل بيته والسابقين والتابعين لهم بإحسان ما أوجب»، قال الله تعالى: ﴿يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن …﴾، (الأحزاب: 28)).. ، ثم استطرد في ذكر أهل البيت فيمن هم وما هي قيمتهم وفضلهم.

زوجات النبي صلى الله عليه وسلم

وكان لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم، النصيب الوافر في الرسالة، وهذا الأمر مهم جدا في اعتقاد المسلم، فلا بد أن يكون على دراية به وباعتقاده اعتقادا يناسب الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة، لأنه جزء من المعتقد، ويمس جناب النبوة، وقد يكفر الإنسان من خلاله وهو لا يشعر، لهذا أولاه الشيخ عناية يستحقها هذا الجانب. لما انتهي من ذكر تبيان فضل آل البيت -علي وفاطمة والحسن والحسين- رضي الله عنهم، انطلق من هذا الفضل، بحسب سورة الأحزاب، الآية 28، ليقرر حقيقة دينية وتاريخية:

undefined

فقال: (وقد ثبت بالنقل الصحيح أن هذه الآيات لما نزلت قرأها صلى الله عليه وسلم، على أزواجه، وخيرهن كما أمره الله، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة، ولذلك -وهنا بيت القصيد- أقرهن ولم يطلقهن حتى مات عنهن، ولو أردن الحياة الدنيا وزينتها لكان متعنهن…)، وهذه قضية متفق عليها بين السنة والشيعة، بأن أزواجه قد ظللن عنده صلى الله عليه وسلم بعد نزول الآية، مما يدل على صدق قول الشيخ، وهذا قد يحرك شيئا في تفكير هؤلاء، فكيف يرضى النبي صلى الله عليه وسلم، بل كيف يرضى الله تعالى لنبيه أن يبقي من علمن بالفساد أو النفاق أو حب الدنيا، فذلك منزه عنه ربنا تعالى وقد نزه نبيه عن ذلك.

أهل البيت في رسالة الشيخ

من المسلمات التي ينبغي التطرق لها قبل الخوض في موقف الشيخ من أهل البيت في الرسالة، وفي العموم، المقارنة بما جاء في المنهاج، والدعاية التي شنت ضده باعتباره عدوا لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهنا لا بد من الوقوف على عدة نقاط مهمة:

أولا: لا يؤخذ مذهب الكاتب أو أي محاور من جدالاته وحواراته مع الآخرين، وبخاصة المخالفين له في المعتقد أو في الأصول، وإنما من تأصيلاته، وكلامه بالعموم، وكما هو معلوم بأن مقام المناظرة والإلزام لا يؤخذ منه مذهب، ذلك أن الحوار والجدل، فيه من الإلزامات أو تتبع حجج الخصم والرد عليها، أو الجريان مع الخصم لإلزامه بقضايا لا يراها، وهكذا، وابن تيمية كان من هذا الباب. خاصة حين تكلم عن علي أو غيره رضي الله عنهم، فظن القارئ أو المخالف في الكلام جرحا أو تنقيصا لهم. فمثلا عندما قال عن علي أنه لم يزل مخذولا، كان يعني أن أصحابه قد خذلوه، في مقابل نصرة أبي بكر وعمر والذي كان علي أحد أنصارهم رضي الله عنهم جميعا، وقس على ذلك.

وثانيا: لا بد من فهم كلام الشيخ في سياقاته. لأنه كثيرا ما يستطرد، بما يظن المتابع أنه بدأ بقضية جديدة، وما علم أنه استطراد طويل، كما استطرد في بيان تاريخ البدع في مئات الصفحات من الجزء الأول من المنهاج.

وثالثا: إذا أردنا أن نعرف موقف الشيخ من آل البيت، فالرجل قد كتب في قضية الحسين، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وفي فتاواه المجموعة، بما يعد دينه ومذهبه الذي لا يخرج عن معتقد أهل السنة. انظر مثلا البحث الذي أعده علاء إبراهيم عبدالرحيم بعنوان: (طعن ابن تيمية في الإمام علي، فرية بتراء) -مركز سلف-. يتبع…

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.