شعار قسم مدونات

الحراك اللبناني في فرصته الأخيرة.. وإلا

blogs لبنان

ضريبة 6 دولار على تطبيق المحادثات "واتساب"، هو الفخ الذي ظن صاحبه -وزير الاتصالات– كفيلا بإلهاء الشعب اللبناني عن الحرائق التي شبت في أراضيه، معلنا الأخضر في لبنان عن خيارين حاسمين، إما الثورة أو الهجرة. تفحمت البلاد ولا طائرة في الدولة تلبي أرزة العلم التي تتوسط دماء الشهداء، وسلاما هشا مهددا من صبية الأحزاب، ليمسي ثبات الأرز في المنتصف خاضعا لرحمة طوافات قبرص. لبى الشعب نداء الأرز منتفضا على ساعات طويلة قضاها اللبناني حانقا تخنقه العبرات أمام شاشة التلفاز مشدوها بوطنه يحترق.

خرج اللبنانيون إلى الساحات بعفوية سيطرت على الحدث بذريعة ضريبة، لكن مضَلَل من يظن أن اللبنانيين في الساحات لأجل ضريبة، أثارت قهقهتهم يوم أعلن الوزير إلغاءها. اليوم لا طوافة تنقذ المشهد اللبناني، والخبر مفاده، حريق شب في صدور اللبنانيين المفجوعة لا يطفئها سوى رتل من الاستقالات. أزمة ثقيلة تواجهها السلطة، لظنها بأن اللبناني اعتاد تصعير خده، وصب جام غضبه على وسائل تواصل تمتص الحدث والغضب… لكن.

الأًصل في الحراك قضايانا وهمومنا كلبنانيين جميعا، فالمشهد اللبناني يبدو ضبابيا، في ظل صمت السلطة جزئيا، فإن كل يوم ننجح فيه في التوقف عن العمل والدراسة للرباط في الساحات لآخر الليل، يشعرنا بنشوة الفرح

صَدم اللبناني شارعه برفع سقف الغضب والمطالب، ليخرج مجاهرا برفضه للسلطة بجميع رموزها وأحزابها، مسقطا بلسانه وشعاراته ومقابلاته المتلفزة قدسية العهد العوني، والهالة التي قدمت الرئيس عون مخلّصا للدولة اللبنانية، بنكهة الوصاية السورية، وعليه، فإن من يتجرأ على العهد يستضيفونه على "فنجان قهوة". هي قهوتنا العربية التي حولها خط الشام – بيروت إلى مذاق بنكهة استجوابية في الغرف المظلمة، علامة تجارية خاصة، حقوقها محفوظة في الأفرع الأمنية. لكن اليوم في الساحات لا قيمة لمنصب أو وزير أو رئيس، الفاسد فاسد، وعادت الأسماء إلى طبيعتها الأصيلة، فهل تتسع فروع التحقيق لمليون ونصف المليون؟! سؤال يحتاج إلى مساندة دولة شقيقة تجيد ذلك.

في يومه الأول، بدا الحراك للعيان فورة تعقبها استكانة، ليصفع اللبناني في ثاني أيام الحراك، سلطةً لم تتوقع في عهدها القوي على اللبنانيين، أن لبنان ينتفض، يخرج من ملعب السلطة إلى موقع المدرب، لا يمتلك خططا بل إصرارا على الفوز، رغما عن فساد الحَكم في حُكمه، مباغتا في حراكه إعلاما محليا حاضرا لقوة الحدث، وإعلاما عربيا يتسابق إلى نقله على مدار الساعة. لاقى الحراك اللبناني اهتماما عربيا واسعا من شعوب اعتادت متابعة الربيع العربي ضمن إطار لم يلتزم به اللبناني. انتفض العرب محبة لشعبنا في حراكه، فاستشعرنا جميعا الأثر الذي تحدثه الشعوب في مساندتها لبعضها البعض في المحن، شعوب على اطلاع بحجم معاناة اللبناني الذي اعتاد الموت أمام أبواب المستشفيات، نتلقى الرسائل من أصدقاء قدامى وزملاء منتشرين حول العالم من جنسيات مختلفة، يعبرون عن ذهولهم بالمشهد، يطوفون بالـ "Master seen" في مظاهراتنا كل أنحاء مواقع التواصل الاجتماعي، يشاركون صور التظاهرات ويلونون صفحاتهم بالعلم.

إنها شعوبنا العربية، تتسارع نبضاتها عند الهتاف بالـ "ثورة"، متعطشون لديمقراطية سحقتها ثورات مضادة على مرأى من العالم، محولة انتصارهم إلى ذكرى، وأعادت ديمقراطيتهم إلى مجرد حلم مسلوب وحديث ثقافي في المقاهي. في المشهد اللبناني، نذكر بعضنا البعض بعدم الانزلاق خلف أحلام غير قابلة للقياس، لذا أسمي ما يحدث في لبنان، حراك أو انتفاضة لا ثورة، فإن سقوط الثورة يا صديقي يجسد نهاية وطن، وجرح لن يسقطه التقادم، سيكون عبئا ثقيلا على الأجيال من بعدنا، سنورثهم سقوطا عن سقوط ورثناه، وأحزاب تتغير وجوه أصحابها لتبدو شابة مع الأبناء، سنورثهم نظاما طائفيا متجذرا في أعماق التركيبة اللبنانية، يعطي كل ذي حجم حصته المناسبة، وبدورنا نرشدهم إلى زعماء الطائفة الذين لا مفر منهم، ليتعلموا أسس الأنظمة الطائفية، وأهمية تقديمها على الإنسان وكرامته من أجل حماية الطائفة ووحدة الصف، نعم لأجل ذلك ننتفض، ونسير نحو مجهول، يشدنا بلذة من يجد ضوءً في نفق تترنح فيه الثعابين.

بغض النظر عما إذا كان المشهد اللبناني لا سيما النساء فيه، بدا مختلفا للمشاهد العربي، إلا أنهن مناضلات نزلن إلى الساحات كما فعلن الفلسطينيات أولا ودائما والسوريات والمصريات والعراقيات واليمنيات والسودانيات والتونسيات، لكن الفارق بينهن اختلاف البيئة وخصوصية المجتمعات، لكن مصالحهن واحدة ومتقاطعة من بيروت إلى كل العواصم العربية. لبنان بلد مركب يصعب على من يجلس خلف الشاشة فك شيفرته، بلد يغص بالمساجد والكنائس ولا يتبع دين، يوحي بأنه بلد علماني وما هو كذلك، هو ذاك النسيج الغني وربما المجنون، وكأنه عائلة مؤلفة من ملايين الأفراد، دخلوا إلى متجر كبير، لبى جميع احتياجاتهم ورغباتهم، هذا هو لبنان لكن الفرق أنه صغير، يحاول أن يرضى جميع مكوناته على اختلافهم وتنوعهم الديني والطائفي والمذهبي وتباينهم الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.

undefined

لذلك يرى العربي في زيارته لبنان، يخوض تجربة مذاقها شرقي-غربي غير متوفر في بلدان أخرى. لذلك فإن طبيعة الحراك اللبناني متقاطعة مع هويته، بدت إنفعالية أحيانا وهزلية أحيانا أخرى ومضحكة في بعض المواقف وغاضبة معظم الأوقات، لكنها غير مصطنعة، فاللبناني تركيبته نفسها لم تتغير منذ الحرب الأهلية، صباحه قتال ومساؤه احتفالات ولو في الملاجىء. ولا ننكر بعض النماذج التي تصرفت بشكل غير مدروس لا يليق بحرمة انتفاضة، إلا أنها ما استطاعت تقزيم هيبة الحدث، لكن راح البعض في تداولها، يكيل بالنقد والشتائم، واصفا الحراك بالفقاعة، دعما للسلطة الحاكمة ليس إلا.

الأًصل في الحراك قضايانا وهمومنا كلبنانيين جميعا، فالمشهد اللبناني يبدو ضبابيا، في ظل صمت السلطة جزئيا، فإن كل يوم ننجح فيه في التوقف عن العمل والدراسة للرباط في الساحات لآخر الليل، يشعرنا بنشوة الفرح والمسؤولية لتكرار المشهد في اليوم التالي. لا نواجه سلطة عادية انتخبناها البارحة، بل نواجه حيتان منتخبة من أهالينا في شبابهم، وهم في الأصل ميليشيات، هذبها اتفاق الطائف لتبدو منطقية أمام المجتمع الدولي، لينتهي الحل بتقاسم لبنان بما يتناسب مع خصوصية طوائفهم، وتكوين هوية لبنان الجديدة.

نواجه اليوم عقلية قبلية تعتبر لبنان ومناصبه الكبرى والصغرى، ممتلكات خاصة، لم يسبق أن تجرأ عليها أحد في خياله، حتى أمسى الشعب على سبيل المثال، مقتنعا بأن منصب رئيس مجلس النواب، لا يمكن أن يدار إلا من نبيه بري، الذي يدير المجلس منذ عشرات السنين، حتى أن منصبه هذا لم يكن موضوعاً للنقاش منذ زمن، بالأصل من يتجرأ على تسمية أخرى؟! الانتفاضة اللبنانية اليوم هي فرصة الشعب اللبناني الأخيرة، ستضعنا أمام عدة سيناريوهات، أخطرها، جر الشارع إلى مواجهات مع الحزبيين وفض الاعتصام بقوة السلاح، ثم ترتيب المشهد أمام المجتمع الدولي. وبهذا السيناريو ستكون جميع السفارات الأجنبية على موعد كبير مع اللبنانيين، لتكرار مشهد الهجرة الكبيرة التي لجأت إليها الأهالي خلال الحرب الأهلية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.