شعار قسم مدونات

السيريالية.. ضرب من العبقرية أم الجنون؟

blogs سيريالية

على هذه الأرض ما يثير الدهشة! إحدى هذه الاشياء لوحات الرائع سيلفدور دالي Salvador Felipe Jacinto Dali i Domenech، اسم طويل لمسيرة أطول، ارتبطت بمواضيع المذهب الراديكالي (Radicalism) في الفنون والآداب، الذي ندد بالتطرف مع اضفاء تغييرات فوضوية إلى حد ما في الفكر والعادات السائدة، مبرزا النزعة إلى زعزعة كل القيم المعترف بها، هذا وقد كان أكثر ما عرف عنه أنه أحد أهم الأقطاب السيريالية (Surrealism) أي ما فوق الواقعية.

   

السريالية هي مذهب أدبي وفني وفكري، فضل الاستناد إلى ايحاءات الأحلام العبثية على محاولة استقاء الأفكار من المواضيع التقليدية المعاشة والمعقولة، الشيء الذي قد يجد فيه ملاذا، كل الحالمون بالهروب من عالم قائم على قياسات عقلانية مضبوطة وكأن كل لوحة من لوحاته على حدة، هي بعد آخر لا سبيل لعقلنة سبب وجوده، ولا صلة قد تربط مكوناته في أغلب الحالات، هي إذن انتفاضة ضد كل منظور واع، تماما كالمعجزات والأحلام، إذ لا قدرة لوعي أن يثبت واقعيتها أو منطقها.

  

تجسدت لوحاته بمزيج من الحلم الفوضوي ،العابث بكل معالم الغرابة والظواهر العجيبة التي استطاعت ترجمة واسقاط تخيلاته، والتي يصعب التفريق بين ما ان كانت مجنونة أو عبقرية، على حسب قول الكثير من المنتقدين، والتي تنم عن الهام مشبع بمعالم فنتازية، توقظ فينا ذاك الطفل اللاعقلاني النائم في أحشائنا، وتشبع إلى حد كبير عطشنا إلى اللامعقول، وفضولنا حول كل ما هو ميتافيزيقي، والذي نحاول رويه بأفلام خيالية أو قصص اسطورية لا تنم للواقع بصلة، إذ أن طبيعة خيالنا المرنة وقدرتها على التوسع تجعل الامر اكثر من شيق وكأننا في ذلك نبحت عن التسلية وبعض المرح، مكسرين كل الحواجز المنطقية مطلقين العنان لخيالنا، وكأنه عالم أقوى من خاصتنا، عالم نرجسي لا يحتاج ضبطا لخصائص محكمة، كدرجة حرارة معينة أو ضغط أو كثافة أو غيرها من الصيغ الفيزيائية أو الأساسيات اللازمة للتشييء لكي يوجد.

   undefined

  (سيلفدور دالي)

   

هو بالفعل شيء ممتع أن تتلاعب بالكلمات والمعاني لتعطي ولادة لأفكار جديدة، وأمتع ان استعطت التلاعب بالأشكال لتعطي تصورا غريبا عن موضوع مألوف، وهذا بالفعل ما أقدم على فعله دالي، إذ قد استطاع أن يتطرق إلى مواضيع لا يحسم أمرها، في بضع ميليمات معلقة على حائط، كان اختيارا يحيل على رغبته في مناقشة مواضيع فلسفية شائكة بأسلوبه الخاص كفنان مثير للعجب.

 

وقد كان مفهوم الوقت مفهوما لم يقف عند حد اسالة كميات هائلة من الحبر، بل من الصباغة الزيتية أيضا، إذ لطالما حاول العديد من المفكرين والباحثين التطرق إليه، ومحاولة تقريب هذا البعد اللاملموس من أذهاننا، وهو أول مفهوم يمكن استنباطه من رؤيتنا لساعة حائطية أو يدوية. لكن ماذا يمكننا أن نستنبط من ساعة منصهرة؟ ماذا يعني الذوبان؟ بالإضافة إلى ما الذي يمكن أن نأخده عن ساعة معلقة على غصن شجرة كمنديل معلق على ذراع ناذل؟ وما شأن الساعة البرتقالية التي صارت وجبة للنمل؟ هي أسئلة ضمن أخرى ستتبادر إلى الذهن بشكل تلقائي ما أن نرى أهم أعمال دالي المسماة إصرار الذاكرة، والتي تصوّر عدداً من الساعات المنصهرة لتعرض بذلك موقفا نسبيا كموقف الفيزياء الحديثة من الزمن.

 

سأستغل الفرصة هنا لعدم النصح بمشاهدة أفلام دالي التي تفوق لوحاته غرابة، إحداها فيلم "كلب اندلسي" الذي يظهر فيه من جديد غزو النمل، والعديد من اللقطات المتداخلة بطيش، وهنا لدي خبران أحداهما سيء والآخر جيد، الجيد هو أنه عموما بإمكاننا ايجاد تفسير لكل شيء السيء، أن العديد من التفسيرات لا دليل عليها أو لا منطق لها، وإن حاولنا تفسير حبكة أفلامه فقد لن نتوفق إلا في ايجاد تفسير لا منطقي.

 

من ثمار كل هذا العبث نجد العديد من الافلام والروايات الرائعة التي استوحت منه العمل على المزج بين المنطقي واللامنطقي كفيلم منتصف الليل في باريس، هي إذن روح مشاكسة تهلث خلف الغرابة كما يلهث الابيقوريون خلف اللذات، محاولة البوح بخواطر دينوسية تتكون لأسباب سيكولوجية يصعب مناقشتها بتسيير للوعي وحده، ولنا في "ميلاد التراجيدية" محاولة لنيتشه لتفسير تلك الأسباب الكامنة وراء أي عمل فني، والذي نخلص منه إلى أن دالي دأب دأب دينوس في جنونه ونرجسيته وسعيه لتصوير ميتافيزيقي بعيد عن النفعية العملية والنظرية، كما قد اعترف بذلك دالي نفسه في كتابه "مذكرات عبقري "قائلا" لقد رافقتني الديونسية النيتشوية أينما ذهبت كمربي أطفال صبور".

  undefined

  

لم يكن نيتشه الشخص الوحيد الذي ألهم دالي، فجالا زوجته اتخذت نصيبا وافرا من ذلك وقد استغل أكثر من مناسبة للاعتراف بذلك مثلا في قوله "إن كل رسام يريد أن يكون مبدعاً وينجز لوحات رائعة، عليه أولاً أن يتزوج زوجتي" إذ هو يعتبرها "الوحي" الذي يستمد منه ابداعه إلى درجة أنه كان يوّقع على بعض لوحاته باسمه واسم جالا معاً ويظهر هذا الرابط ايضا في لوحة "مادونا بورت ليجات" وهي عبارة عن عذراء بملامح جالا.

 

لوحات دالي تصيح في صمث معربة عن موقف مشبع بالفوضى العارمة والتي تنقذنا من حالة الملل الناثجة عن كل فن عقلاني ملتزم وراشد كالذي يدعو إليه المنهج الأبولي متجاوزين الرعب على حسب وصفه، واستنادا إلى تعريف نيتشه للفنان الحقيقي، والذي يكوم قادرا على الاندفاع بمجاراة اندفاعات الإرادة والقوة، فغنه بإمكاننا القول إن دالي من قلائل الفنانين الذين استطاعوا الوصول إلى جوهر الفن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.