شعار قسم مدونات

التظاهرات العراقية بين الطموح المأمول والواقع المأزوم

blogs العراق

لا يعتري كل ذي نخوة إنسانية، وروح وطنية؛ ذرة شك أو تردد في دعم ثورات الشعوب العربية المغلوبة على حريتها، وهي تنتفض بأجيلها الصاعدة رفضاً للفساد والمحسوبية والدكتاتورية والطائفية السياسية.

 

وفيما القلوب تشرئب نحو ثورة الشعب العراقي في ميادين بلاده المفتوحة، وسط دفقٍ من الصور والمقاطع المصورة التي تظهر صموداً أسطورياً للشباب الثائر أمام من تسميهم السلطة بـ"الطرف الثالث"، يلوح في الأفق سؤالٌ يوجبه التفكير المنطقي السليم، ودواعي الفهم العميق الدقيق لمآلات الأمور، وخلاصته إلى أين ستتجه بوصلة الأحداث في بلاد الرافدين؟ وهل حقاً ستنج التظاهرات والاحتجاجات والفعاليات السلمية في تغير معادلة معقدة أرساها الاحتلال الأمريكي للبلد الجريح منذ عام 2003، قامت عليها معادلات إقليمية معقدة، وموازنات للقوى المتصارعة على النفوذ والسلطة في منطقة الشرق الأوسط؟

  

ولكي نصل إلى تحليل صحيح للمآلات، يبلغ بنا شاطئ الفهم العميق، علينا أن نفكر بالأحداث ونقرأ معطياتها بالعقل والمنطق، مُنحين العاطفة تنحية قاطعة، فالعواطف في السياسة لا توصلنا إلا إلى التيه وضياع البوصلة، إن الوصف الدقيق لما يحدث اليوم هو؛ محاولة إسقاط نظام الحكم في العراق، على غرار ما حدث عام 2003، حين أسقطت المعارضة العراقية في الخارج حكم حزب البعث بالاستعانة بطرف أجنبي خارجي.

  

ومع عودة صراع الإرادات نهاية 2019 إلى ذات المربع، نقف اليوم على اعتاب محاولة لإسقاط نظام الحكم القائم، في مواجهة غير متكافئة بين طرفي الصراع، الأول راسخ الأقدام في السلطة ويمتلك كل أدواتها، والثاني شعبوي لا يملك حيلة سوى تراكمات من المظلومية على مدار عقد ونيف، واستياء من إهدار مقدرات الدولة التي تحولت إلى جمهورية فاشلة بامتياز تعضده أرقام محلية وإحصائيات أممية، ويؤكد داعمو الحراك الجماهيري عفويته، في ظل ضبابية تحيط بقيادة الحراك ومن يقف وراءه.

     undefined

  

يرى المحللون استحالة أن يحقق الاحتجاج العفوي غايته دون دعم طرف خارجي على غرار ما حدث عام 2003، وهي الحجة التي تسوقها الأحزاب الحاكمة، والقوى المؤسسة للنظام العراقي الحالي، والغريب أنها تسوق على ذلك أدلة وقرائن تشير بأصابع الاتهام إلى الولايات المتحدة الأمريكية، التي ساعدت في إسقاط نظام حكم حزب البعث، والتي سلمت العراق على طبق من ذهب للطرف الإيراني بعد الانسحاب منه عام 2011، وأسست طهران بناء على ذلك نفوذها الإقليمي، وقوتها الضاربة التي تواجه بها التحديات في محيطها اليوم.

  

هل يمكن إسقاط النظام؟

خلاصة الوضع الإقليمي اليوم؛ هو أن التفوق الإقليمي لإيران في المنطقة أصبح حقيقة واقعة، وتمددها على طول جغرافيا الشرق الأوسط بات أمراً جوهرياً، فهي غدت مؤثرة بأهم مضايق العالم ومعابرها التجارية والاستراتيجية الحيوية، من مضيق هرمز على السواحل الإيرانية الذي يمر من خلاله خمس انتاج الطاقة في العالم، مروراً بالخليج العربي ومنابع النفط السعودي عبر العراق، وغير بعيد عن شواطئ البحر الأبيض المتوسط عبر سوريا ولبنان، وانتهاء بمضيق باب المندب عبر اليمن، شريان التجارة العالمي، هذه المعادلة تحدث فيما يعيش العرب أسوء مراحل تاريخهم الحديث منذ مرحلة استقلال الدويلات الوطنية، ضعفاً عسكرياً، وتبعيةً سياسية، وتفككاً اجتماعياً، ويقود المحمدان؛ بن زايد وبن سلمان، ثورة مضادة لمخرجات "الربيع العربي"، وللإرث الديني والثقافي والاجتماعي الذي تأسست عليه دويلات المنطقة، ونشأت على أدبياته أجيال كثيرة.

 

في هذه الغمرة لاينبغي أن يكون السؤال من يقف وراء المظاهرات، هل هي عفوية، هل هي بعثية، هل هي تصفية حسابات بين تيارات شيعية، هل هي مؤامرة إقليمية؟! السؤال الأهم من ذلك كله هو: هل ستسلم إيران العراق لأهله، لان الملايين خرجوا إلى الشوارع في مظاهرات سلمية، وعبر عصيان مدني يرددون (إيران برة برة)، هل نتوقع أن يصدر المرجع الأعلى الإيراني قراراً فورياً ويوعز بإعادة العراق لأهله، وإرجاع القرار لأصحابه، حقناً لدماء الأبرياء؟ هل يمكن أن يكون هذا القول منطقي؟

 

إن الجواب المنطقي لهذا السؤال، أن إيران لن تسلم العراق على طبق من ذهب لأهله، ولن تفعل ذلك في لبنان بطبيعة الحال، والدليل على ذلك قائم أمام أعيننا لسنا بحاجة للعودة إلى التاريخ وشحذ الذاكرة، فسورية على مرمى حجر من العراق ولبنان، وحين اندلعت الثورة الشعبية السلمية، وتقدم الثوار فيها وكاد النظام يسقط، ماذا فعلت إيران؟، إن العقل والمنطق يقولان أن إيران لن تسلم أو تستلم، ولن تتخلى عن مكاسبها مهما كان الثمن، وستقاتل في سبيل ذلك إلى آخر قطرة دم عراقية.

 

وإذا كان الحارك الشعبي يعتمد على الفواعل الدولية، والنظام العالمي ممثلاً في مؤسسة الأمم المتحدة، ومنظمات حقوق الإنسان، فإن القيادة الإيرانية وهي تتعامل مع هذا المعطى تعرف تماماً أن المجتمع الدولي الذي قد يراهن الثوار، معطل بوجود الفاعل الروسي في خضم معادلة صراع الإرادات في منطقة الشرق الأوسط، ولو كان لإراقة الدماء ان يحرك سواكن الضمير العالمي في سوريا لفعل ذلك في العراق، وما سيحرك العالم هو محركات الصراع والمصالح.

    undefined

  

إن سقوط النظام العراقي في هذه اللحظة يكاد يكون في حكم الممتنع عقلاً ومنطقاً، فإيران وأذرعها لا يزالان في خندق الفرجة، وإن كانت ثمة تصفية حسابات بين تلك الأذرع تلوح بوادرها هنا وهناك، وحين تصل الأمور إلى نقطة يتيقن فيها صانع القرار الإيراني أن النظام العراقي على المحك، فسيدخل بقوة وعنف مفرط وانتقام لا يرحم ولا يستثني في بطشه أحداً، والدليل على ذلك؛ حين رشح خامنئي أحمدي نجاد لمواجهة الاصلاحي حسين موسوي في انتخابات الرئاسة عام 2009، فاز نجاد بالتزوير الذي تم بأمر المرشد، وحينها قاد الإصلاحيون تظاهرات واحتجاجات عارمة اكتسحت الشارع الإيراني، وحين وصلت إلى مرحلة تهديد النظام الحاكم، تعامل الباسيج ألإيراني مع الأمر وانهى الاحتجاجات خلال أيام، بشكل دموي تناقلته وسائل الاعلام، ولاتزال ذاكرة "اليوتيوب" تحمل جانباً من الابادة التي تمت على مرأى ومسع العالم.

 

هل هذا تخذيل؟

لا ينبغي أن يفهم ما أقوله هنا على أنه تخذيل للحراك الشعبي وإحباط لمساعي الشباب الثوري في التغيير، بل هو على العكس منذ لك تماماً، دعوة إلى الوعي بمدار الأحداث، والمعادلات التي تحكم المحيط الإقليمي، فأنا مؤمن بيقين أن جولة ثانية من الربيع العربي قادمة لا محالة، ولكن على الربيع العربي في جولته الثانية أن يكون أكثر وعياً ونضجاً في حراكه الثوري، كي لا تغتال الثورة من تحتها كما حصل في الجولة الأولى.

  

إن أحرار العالم العربي اليوم يتطلعون إلى الحرية التي طال غيابها، ليتاح للطاقات الكامنة في دولهم الانطلاق لصناعة نهضة تنتشل الأمة من وهدة طال ليلها، وقراءة التاريخ بما فيه من تحديات واجهت هذه الرغبة القديمة على الصعيد الدولي، إلى جانب الواقع الذي تشكل على امتداد ذلك التاريخ، وأفرز مخرجات هي اليوم تقف حجر صخرة وممانعة في وجه أي تغير، هذه القراءة ستوفر نضجاً ثورياً ينتج عنه تغير واعي وشامل.

  

وما نشهده اليوم من قرارات تتخذها الدولة في العراق، هي محاولات لاستيعاب الحراك الشعبي سلمياً، عبر سلسلة إصلاحات تطال مظهر النظام دون المساس بالجوهر، وهو خلاف ما يطالب به المحتجون، والخطر الكامن في الخطوة التالية، حين تصل الدولة إلى قناعة بعدم نجاعة حلولها السلمية القائمة على امتصاص الاهتزازات الارتدادية لزلزال الاحتجاجات، عندها يكون علينا وعي ما ينبغي العمل عليه في مواجهة عنف الدولة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.