شعار قسم مدونات

ما بين السعادة ونقيضها.. كيف نمضي في معترك الحياة؟

blogs تفكير

يغدو الحزن رفيقَها حين تخونها متعة اللحظة فتستذكر الماضي، يزورُها من حينٍ لآخر بثوبهِ الأنيق ورائحتهِ المُعتَّقة، يقرع بابها ويدخل بثقة هزلية دون أن يبالي بإذن الدخول.. يرتدي نظّارتَهُ ذاتِ العدساتِ الغليظة وينتقي نظرَتَهُ المُتفحِّصة ليبدأَ جولةً ساذجة في استعراض مقتطفاتٍ بالية من شريط الذاكرة.. هنا طفولتُها الوحيدة والبائسة.. ذاكَ عالمُ القلق والتجزُّؤ الذي عاشتْه.. يظهرُ بعدَه انضباطُها الشديد الذي اتّخذَ منحنى الجدّيةِ المُفرِطة غيرِ اللائقةِ بطفلةٍ يُفترَضُ أنْ تكونَ في أوْجِ مراحلِ المرح واللعب وحتى الاستهتار في بعض الأحيان.. يلفِتُهُ تَوْقُها المتفاني لإسعادِ غيرِها على حسابِ نفسِها.. وحساسيّتُها الغالبة على كلّ شعور.. ثمّ أحلامُها الكبيرة التي سرقتْ لذّةَ النومِ من عينيها خشيةَ ألّا تتحقّق.. يكتفي بهذا القدْر الآن.. يستهمُّ بالرحيل وكأنّه شبحٌ أنهى مهمّتَهُ الأرشيفيّة.. ينظرُ إليها ويقول.. "أنتِ بخيرٍ الآن".. ويمضي.. بعدَ أن بعثَرَ طمأنينةَ المكان بدخولهِ العبثيّ واللّامرغوب.. تاركاً لها كلَّ فوضى المشاعر..

تتنهّدُ مُستثقلةً زيارَتَهُ الآثمة في حقّها.. تُقِرُّ أنّها لم تكنْ سنواتٍ لطيفة.. سنواتٍ تذكُرُها فتقرّرُ بعدَها اختصامَها من عُمْرِها.. أو تعصِفُ بها دوّامةُ الأسى فتطالبُ القدَرَ يائسةً بارتجاعها لتعيشَها "كما يجب" مرةً أخرى.. أو ترتضي لنفسِها سنواتٍ جديدة تتّسعُ فيها بؤرةُ الأمل وتعظُمُ فيها دائرةُ السعي إثرَ انتفاضةٍ نفسيّةٍ عارمة تنبثقُ من صميمِ الألم.. لم تكنْ كلُّ تلكَ الصّدمات -واحدة تلو الأخرى- شيئاً عابراً في حياتِها.. وما يزيدُ قلبَها كَدَراً أنّها اعتادتْ أن تستحْضِرَ أشْجانَ الماضي جميعها حين يزورُها الحُزن.. تُرى.. أهي عادةٌ شخصيّة؟ أم هذا طبعُ النساء؟ أم أنّها فطرةٌ بشريّة؟ أياً كان.. فهذهِ عادةٌ سيئة..

الديناميكية المُكتسَبة والقابلة للتعلُّم هي ما يجعلُ الإنسانَ قادراً على التكيّفِ مع ظروفهِ المُحيطة وإيجادِ حلولٍ للتعامل مع ضغوطات الحياة، ومُحاولةِ الحفاظِ على نمطِ تفكيرٍ هادفٍ وبنّاء

تعيد النّظر فيما مضى بتعقُّلٍ وهدوء.. تُقرِّرُ أنّ بإمكانها استعراض كلِّ ما سبق على شكلِ دروسٍ وعِبَر تعلّمتْ منها الكثير.. يستوقُفُها حالُها في اللحظةِ الراهنة.. تبتهج.. فهذهِ هي الآن.. ثابتة وقوية وتعلمُ تماماً ما تُريد وما لا تُريد.. تنظرُ للصعابِ بثقةِ المُحاربِ المُتمرِّس وترى مدى اتساعِ مَدارِكِها بعدَ كلِّ تلكَ التجارب التي حفّتْ طريقَها، والتي صَقَلَتْ من نُضْجِ عقلِها الكثير وكأنّها الآن امرأةٌ في الأربعين من عُمرها بوجه ما زال يحتفظُ برَوْنقِ العشرين.. هكذا هو الإنسان.. جَبَلٌ متفرّدٌ من ظروفِ النشأة وتراكماتِ الزمن وتعاقبِ الظروف والأحداث والأشخاص والتجارب مع مزيجِ المشاعر المختلطة والمتناقضة والمتأجّجة في لحظاتِ وعيٍ مُطلَق أو تلقائيةٍ عبَثيّة أو جُنونٍ مشحون؛ تقودُه لاتّخاذِ قراراتٍ صغيرةٍ وكبيرةٍ عدّة -بل لا نهائيّة- كلَّ يوم وكلّ لحظة..

هكذا هي الحياة.. تمنحُكَ لحظاتٍ زاهية ورائعة وربّما مثاليّة في بعضِ الأحيان ثمّ ما تلبثُ إلّا أنْ تصفعكَ بلحظاتٍ يلْتعجُ بها القلب ويَدْوي بها الفكر وكأنّها تُعْلِمُكَ بجاهزيّةٍ مُنفِّرة بأنّ دوامَ الحالِ من المُحال.. ولكن، هل يعني هذا أن ننصرِمَ لليأس ونهلعَ للشكوى والجُحود كُلّما أرهقَتْنا دوّامةُ الحياة؟ أم أنّ الأجدى أن تكونَ نظرَتُنا لمحطّاتِ دُنيانا شُموليّة لتتّسعَ لكلِّ تراكماتِ العُمْر المتناقضة من نِعَمٍ وحُبور وهزائمَ وانكساراتٍ وتضحيات وجميع الدُّروس التي تصقلنا وتشكّلُ واقِعَنا وتصنعُ انتصاراتنا بعد أن تُلقِّننا ايّاها الحياة على شكلِ آلامٍ ودموع؟

مرض مزمن، وفاة عزيز، علاقات سلبيّة وعقيمة، فقر مطقع، أُسرة مفكّكة، تعنيف جسدي أو لفظي، قرارٌ طائش، مشكلة هدّامة في أسباب الرِّزق، متاعب في العمل، أحوالٌ اقتصاديةٌ واجتماعيةٌ قاسية، ظُلم، خذلان، قَهْر، حرمان.. كلُّها أوجهٌ لمصائبَ دُنيوية كفيلةً بإحداثِ تحوّلٍ جذريّ في حياةِ الإنسان بما ينتجُ عنها من أثرٍ في نفسِهِ وفي ردودِ أفعالهِ وفي كيفيةِ تفاعُله مع مُحيطِه وعالَمِه.. فماذا لو كانت الحياةُ بأكملها بهجةً وسُرور؟ لربّما ستبدو الحياةُ رتيبةً جدّاً وغيرَ مُلهِمة ولا مُفعَمةً بالأملِ والعمل لو كانت لحظاتُ السعادةِ وأسبابُ الراحة وتيريّةَ النّمط ودائمةَ الوجود فالنفسُ البشريّة مَلُولة ومُتطلِّبة بسجِيَّتها.. أظنُّ أنّ تقلُّباتِ الدّهر بين رخاءٍ وابتلاء هو بحدِّ ذاته ما يجعلُنا نُدرِكُ المعنى الحقيقيَّ للسعادة.. فإذا كان الحزنُ نقيض الفرح، فقد ساهمَ الحزنُ في فهمِنا لمعنى الفرح بشكلٍ نسبيّ.. الأضدادُ اصطلاحيةٌ بطبْعِها ولكنّها أيضاً تعبّرُ ضمنيّاً عن نقيضِ الشعور..

وإن كانت هذه الأضداد في العواطف والأحوال مستَْوجِبَةَ الحدوث بحكم القَدر والنّصيب في مَنهَجِ الايمان، ما الذي يُبقينا على قَيْدِ الأمَل؟ وكيف يتعافى الإنسان من نُدُوبِهِ النفسيّة ويسترجعُ ابتسامَته باستبشارٍ وتهلُّل بعدَ نكَساتِ الدّهرِ المُتتالية؟ أظنُّ أنّ الإجابةَ تكمُنُ في مفهومِ المُرونةِ النفسيّة.. إنْ كانتْ عضلات الجسم تحتاجُ للتمارينِ والحركة للحفاظ على مُرونَتِها ولياقَتِها، فكيفَ بالنّفْسِ التي تخوضُ تقلُّباتٍ عاطفيّةٍ شتّى وتخضَعُ لتحدّياتٍ يوميّة مُتفاوتةِ الصعوبة وتنصهرُ في مراحِلَ عُمريّة مختلفة مليئةٍ بالأحداثِ والظُّروف بين يسيرٍ وعسير في كلّ عام؟

يمكننا أنْ نَصِف المرونةَ النفسيّة بديناميكيّة العواطف إنْ صحَّ استخدامُ هذا كتشبيهٍ فيزيائيّ، إذ إنّها تتمثّلُ في قدرةِ المرْءِ على إدراكِ تحدّيات المرحلة بوعيٍ وتفهُّم والتأقلمِ مع أبعادِها ونتائجها مع إمكانيةِ تجاوُزها والعودةِ إلى حالةٍ نفسيّة وذهنيّة وعاطفيّة سليمة وإيجابية. إنّ هذه الديناميكية المُكتسَبة والقابلة للتعلُّم هي ما يجعلُ الإنسانَ قادراً على التكيّفِ مع ظروفهِ المُحيطة وإيجادِ حلولٍ للتعامل مع ضغوطات الحياة، ومُحاولةِ الحفاظِ على نمطِ تفكيرٍ هادفٍ وبنّاء، والتعايش مع مُقتضيات الواقع بما يفرِضُهُ من أزماتٍ وعقَباتٍ ومِحَن دونَ إلحاقِ ضررٍ جسيم بصحّته النفسية. ولا يعني ذلكَ أنّ المُرونةَ تقيكَ من شعورِ الحزن، بل هي ما يجعلُكَ قادراً على تغليفِ حُزنِكَ بضمادٍ من أمَل كي لا يفتِكَ بك فتغدو ضعيفاً عاجزاً ناقماً..

ورغمَ تفاوتِ هذه القدرةِ بين الناس، فإنّني كثيراً ما كنتُ ألتمِسُ الجانبَ الروحانيّ للمرونةِ النفسيّة وعلاقتِها بسعادةِ الإنسان والتي قد يكون جُلُّها في"الرضا".. أظنُّ أنّ أعظمَ أسباب السعادة هو الرضا بقضاءِ الله خيرِه وشرِه.. تلكَ الطمأنينةُ الداخلية التي تجعلُ الدُّنيا بحوادِثها وتقلُّباتها ومصائِبها أيسرُ وقعاً على قلب الإنسان.. وقد يبدو ظاهرياً أنّ الوصولَ إلى هذه الطمأنينة أمرٌ سهل.. وهو في الواقع مجاهدةُ نفس في إقناعها بأنّ ما حدث -على ما بدا منهُ من ظاهرِ سُوء- هو خيرٌ لكَ في "دينِكَ ومعاشِكَ وعاقبةِ أمرِك".. وأنّ ما كنتَ تسعى إليه بكلِّ ما أوتيتَ من قوةٍ وعزم ولم يحصل (أو حصل بنتائجَ غير مرغوبة) لأنه لم يُكتَب لك لعلمٍ عند الله – هو خيرٌ أيضاً.. وأنّ الابتلاءَ الذي أجهدَك وأضنى عليكَ عُمرَك حمَلَ يُسراً دفيناً بين خباياه أدركْتَ ذلك أمْ لم تُدرِك..

هذا الرضا هو قدرتُكَ على استيعابِ شُعورِ الخَيْبة لإيمانِك بأنّ ما عندَ اللهِ هو خيرٌ وأفضل.. هو امتنانُكَ لله لأنّه كفّ عنك شرّاً أعظم في الأمر الذي كنتَ تسعى إليه ولم يحصل.. هو تسليمُك بنقصِكَ كإنسان وبكمالِ الله وعدلِ قضائه وانفراده بعلم الغيب وحده.. هو أيضاً أن تسعى نحو هدفِك وتأخذَ بالأسباب وقلبُكَ مطمئنٌ بالخير من عندِ الله بأيّ نتيجةٍ ستكون.. هو باختصار أن تطبّقَ قولَ السّلفِ الصالح رحمهم الله: "الجوارح تعمل والقلوب تتوكل".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.