شعار قسم مدونات

من أجل تصفية الذاكرة من الأحزان

blogs تأمل

عبر رحلة الحياة الطويلة، والتي قد تنتهي في أية لحظة، نتصادف بلحظات تترك لنا فرصة للذكرى، لترافقنا هذه اللحظات بكامل تفاصيلها، عبر الحاضر وصولا إلى المستقبل الذي ما انفك ينتظرنا بكل ما يحمله من غموض، وهكذا نصير مضطرين لتحمل عبء ذكريات، بعضها يكون النسيان ملائما لها، فليست كل الذكريات جميلة، لابد أن هناك ذكريات نُصاب بالحسرة بمجرد تذكرها، لعلها كانت بمعية أشخاص صدمتنا الخيبة وقد توقعنا منهم غير ما حصل، أو لعلها تُذكرنا بإخفاقات لم نستطع حيالها إلا الأسف، وعبر رحلتنا نحاول أن نأخذ من النسيان ما قد يسعفنا في تجاوز محنتنا المغروسة في الذاكرة، لكننا لا نجد إليه سبيلا، فتلتصق بنا الذكريات محملة بخيباتنا وأفراحنا كذلك، وهذه سُنّة الحياة، وبين أتون هذه الذكريات نسعى جاهدين إلى النيل من كل خيباتنا عن طريق السير نحو المستقبل، فنحاول بكل رغبة أن ننسى كل شيء ونمضي.

 

بين ثنايا الماضي نترك مجموعة من التفاصيل، وبمجرد ما نتصادفها من جديد، تُذكرنا بأننا مررنا من هناك ذات، قد تكون الذكرى تستحق التذكر، وقد لا تستحق ذلك، لكننا حيال الأمر لا نستطيع المقاومة، فذاكرتنا محفوفة بالذكريات، ومهيأة لتذكرها في أية لحظة، فنضطرين بكل ما تحوم حوله الذكرى أن ندع ذاكرتنا تسبح في تفاصيل انقضت، والحق أننا نجد ضالتنا في تذكر اللحظات الجميلة، رغم الحسرة التي تتملكنا من ضياعها خصوصا عندما نتأكد أنها لن تتكرر، ونفس الحسرة تصيبنا كلما وجدنا أنفسنا أمام ذكريات لطالما حاولنا الهرب منها، لكننا بقدر ما نفعل ذلك بقدر ما تسكننا هذه التفاصيل، فتستهلك ذاكرتنا بعضا من طاقتها لمقاومة ما ينطوي عليه هذا النوع من الذكريات.

 

لن تقف الحياة لتراعي أحزاننا ولن تكترث لضعفنا، ثم إن الحياة لا تتوقف على أحد، نحن من يمارس نصيبنا منها كيفما نشاء، ولذلك لا ينبغي أن ننتظر من الآخرين أن يخلقوا لنا بعضا مما فشلنا فيه

في الغالب تحوم ذكرياتنا حول أشخاص قضينا معهم جزء مهما من عمرنا، هناك من ظل وفيا لنا، وهنا من ترَكَنا على قارعة الطريق بحثا عن آخر قد يلبي ما يبحث عنه من احتياجات، وبدورنا ظللنا أوفياء لمن وجدناهم يستحقوننا، وخذلنا أولئك الذين خذلونا، وخذلنا أيضا بعضا ممن كانوا يعولون علينا، وبين هؤلاء وأولئك دارت حكايتنا وجمعتنا بهم ذكريات، التصقت بذاكرتنا، وهي الذكريات التي تذكرنا بالأشخاص أولا ثم الأحداث والمواقف، وهم الذين يذكروننا بتلك الذكريات، فلا نجد مفرا منها، رغم ندمنا على كثير منها، لأننا خلال رحلتنا هذه عبر الحياة، أدركنا متأخرين أننا ضيعنا كثيرا من عمرنا رفقة أشخاص لا يستحقون حتى أن يدخلوا إلى حياتنا، لكن ما أسوأ الحياة حين تمتحنك كرها!

 

لقد ورطتنا الحياة في علاقات لم تكن تنسجم مع طموحاتنا ولم نجد فيها غير ذلك الكم الملائم من النفاق، والذي اضطررنا لممارسته بدورنا لأسباب اجتماعية، وكثيرة هي الصداقات التي ما إن نتذكرها حتى نصاب بالخيبة منها، وهناك علاقات عاطفية قررنا بتسرع مُبالغ فيه أن نخوض فيها، وسرعان ما خسرنا تلك العلاقات، وخسرنا معها أولئك الأشخاص، الذين لم يضيفوا إلى حياتنا غير خيبة التصقت معها بعض الذكريات؛ بعضها جميل وبعضها كان أسوأ من أن يبقى في الذاكرة، وما دمنا خسرنا لحظات من عمرنا رفقة أشخاص نشعر فعلا أننا ضيعنا معهم جزء مهما من حياتنا، فلا نملك إلا الأسف حيال ذلك، وإذا أردنا أن نكون إيجابيين حيال الأمر، فلابد أن نعتبر ذلك بمثابة دروس ينبغي أن نأخذها بعين الاعتبار خلال ما تبقى من رحلتنا، وأن ندع مخلفات الماضي ورائنا، وأن نستمر ونطلب المزيد من الحياة.

 

من طبيعتنا كبشر أننا نطلب المزيد من الحياة، رغم ما تنطوي عليه من خيبات، ولعل الخيبات بمثابة حواجز تؤجل موعدنا مع الحياة، وتدفعنا لنتلذذ بها في كل مرة نخرج منها متعافيين، المهم ألا نفقد الأمل، وليس بمعناه الوهمي، ولكن بالمعنى الذي يدفعنا لبذل مزيد من الجهود لكي نتجاوز لحظاتنا التعيسة، وهكذا تسير الحياة، لكن بما أن قانون الحياة يضعنا أمام بشر آخرين، فإنهم يؤثرون في حياتنا في جميع الأحوال، قد يكون تأثيرا إيجابيا، وهذا ما نسعى إليه، وبالمقابل قد يكون سلبيا، وهذا النوع هو الذي يورطنا في المزيد من الخيبات، فلا نجد بدا من التوسل ببعض مما نملك من تجاهل واستمرار إذا رغبنا في المضي قدما بحثا عمن ينسينا ما تركناه وراءنا من مرارة.

 

لن تقف الحياة لتراعي أحزاننا ولن تكترث لضعفنا، ثم إن الحياة لا تتوقف على أحد، نحن من يمارس نصيبنا منها كيفما نشاء، ولذلك لا ينبغي أن ننتظر من الآخرين أن يخلقوا لنا بعضا مما فشلنا فيه، كما لا ينبغي أن ندع إخفاقاتنا مع الحياة ومع الآخرين تؤجل موعدنا مع الاستمرار، قطار الحياة يسير دون توقف، قد يتوقف قليلا في بعض المحطات، ولن يمكث فيها مطولا، لكننا نحن من يختار التوقف والاستمرار، ونحن من يحدد مدى رغبتنا في مسايرة الحياة أو الاستسلام للحظات الانهيار، قبل أن نواصل المسير، لكننا قد نتأخر، وما أسوأنا عندما يسبقنا قطار حياتنا الأول! فلا نجد غير الحسرة على ما قررنا بإرادتنا أن يضيع منا. وتجنبا للمزيد من الخيبات، كان لزاما أن نتدرب على فن التجاهل والنسيان، وأن نخلق ذكريات جديدة ونستمتع بالمزيد من الحياة حتى ننسى ما يستحق النسيان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.