شعار قسم مدونات

عن ثقافة السلام المفقودة في الصين

ميدان - التحية الصينية

بعد أن فشلنا على مدار ثمانية أعوام في أن نلتقي بإحدى الدول العربية، تمكن أبي أخيراً من زيارتي لأول مرة في الصين، كان ذلك مطلع أبريل الماضي. لم أكن في حاجة إلى السؤال عن انطباعه في أيامه الأولى ونحن نتجول بين المعالم السياحية والتاريخية في العاصمة بكين، فقد كانت عيناه تسبقانه دائماً بالإجابة. بدا مأخوذاً بجمال الصين وعراقتها وعمق حضاراتها، كما كان حاضراً في ذاكرته الموقف الصيني الداعم للقضية الفلسطينية، وهو المناضل الفلسطيني الذي قرأ في شبابه عن نضال الشيوعيين ضد الإمبريالية وصلاتهم بحركات التحرر الوطني.

  
مر أسبوعان قبل أن ينال منه التعب بسبب الجولات الخارجية المتكررة، لنضطر بعد ذلك للمكوث أكثر في المنزل الكائن في مبنى سكني يضم حوالي خمسة آلاف شخص. فكانت فرصة سانحة ليطلع عن قرب على المجتمع الصيني من خلال المشاهدة والمعايشة اليومية. خلال تلك الفترة كنت مطالباً بالإجابة على الكثير من الأسئلة، ربما أكثرها إحراجاً بالنسبة لي (كوني نسيباً لأمة الطفل الواحد): لماذا لا يتبادل الصينيون السلام، ولا يردون التحية؟ 
 

لم يكن لذلك بالطبع علاقة بحاجز اللغة، أو اللون (أبي أسمر البشرة)، أو الجنس، فالصينيون لا يتصافحون ولا يتبادلون السلام ليس فقط مع الغرباء، بل حتى فيما بينهم (إلا ما ندر)، كما أن التقاليد الصينية لا تبيح الاتصال الجسدي حتى في نطاق الأسرة الواحدة، لذلك لايزال الصينيون حتى اليوم يستهجنون وينكرون علينا كأجانب نقيم بينهم، قيامنا بتقبيل واحتضان بعضنا عند السلام. بل أكثر من ذلك، يعتقد بعض الصينيين، أن تقبيل رجل لآخر (قبلة الخد المعتادة)، عمل شاذ، وإن وقع ذلك بين امرأتين، ينظر إليهما باشمئزاز، وكأنهما أقدمتا على فعل مشين أمام الملأ.
   

جذور تاريخية
ربما كان للمجاعة التي أصابت المجتع الصيني في منتصف الخمسينيات، بسبب ما يسمى بالقفزة الكبرى، التأثير الأكبر في تراجع أو انقراض مفردات السلام من القاموس الصيني

بالعودة إلى التاريخ، نجد أن المجتمع الصيني كان محكوماً بمنظومة قيمية أسسها الفيلسوف الصيني كونفوشيوس (551-479 ق م)، والذي تمحورت تعالميه حول قواعد السلوك واللياقة، ومبادئ الأخلاق، والأعراف الفاضلة. وقد كانت لأفكاره ومبادئه بالغ الأثر على حياة الصينيين وثقافتهم، حيث اعتبرها بعض المؤرخين بمثابة الدين الرسمي للدولة الصينية خصوصاً في القرن الثاني قبل الميلاد.
   
في محاورات كونفوشيوس مع طلابه، والتي جمعت ونشرت في وقت لاحق بعد موته، سأله أحد التلاميذ عن معنى الإحسان، فأجاب: الإحسان هو المحبة. فعاود التلميذ: وما هي المحبة؟ فأجاب: ما يتولد في النفس من شعور حين تضم صديقاً أو قريباً. وفي رواية أخرى وردت بنفس الكتاب، يقول كونفوشيوس: "ليس أفضل من السُكنى بجوار جار طيب النفس كريم الأخلاق، فمن غفل عن ذلك تناءت عنه الحكمة".
 
ما تقدم يشير إلى أن الاتصال الجسدي والتواصل الاجتماعي والإنساني كان قائماً خلال تلك الفترة (السلالات الكونفدرالية)، كما أن المصافحة كانت موجودة بشكل أو بآخر، وكانت حسب الروايات القديمة، دلالة على السلم، بمعنى أن مد اليد للمصافحة إثبات لخلوها من السلاح الأبيض، وبالتالي هي وسيلة لإيصال حسن النية.
 

انقراض

مع دخول الصين في حقبة السلالات الإمبراطورية، وتحول المجتمع الصيني إلى مجتمع طبقي، بدأت هذه المظاهر تتراجع، وأصبحت التحية تقتصر على تقديم فروض الولاء والطاعة بالإنحناء وبالسجود في بعض الأحيان خصوصاً داخل البلاط الإمبراطوري. ومع ظهور الشيوعية وبالتحديد في ستينيات القرن الماضي، حين اندلعت الثورة الثقافية، اختفت هذه المظاهر تماماً، حتى أن كلمات الشكر والثناء، كانت تعتبر في ذلك الوقت بدعة برجوازية.
 
وربما كان للمجاعة التي أصابت المجتع الصيني في منتصف الخمسينيات، بسبب ما يسمى بالقفزة الكبرى، التأثير الأكبر في تراجع أو انقراض مفردات السلام من القاموس الصيني. حيث كان السؤال عن تناول الطعام في تلك الفترة سؤالاً وجودياً. لذلك تحولت التحية مع مرور الوقت، إلى شيء آخر له علاقة بالهواجس التي كانت تسيطر على الصينيين، ولاتزال آثارها ماثلة حتى اليوم، فحين يرغب الصيني في تقدير شخص يسأله إن كان قد تناول طعامه. وهو سؤال يعادل التحية عندنا، لكنه مفرغ من إيماءات التودد، خال من العاطفة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.