شعار قسم مدونات

أخذنا من حب الوطن ما لن نحسد عليه

blogs ثورة

إن الوطن كمفهوم شامل لا يقتصر على البقعة الجغرافية والأرض المرسومة بحدود سياسية مصطنعة، ولا يمكن أن يكون الوطن مجرد مكان للإقامة أو اسم نضعه في بطاقة الهوية وجواز السفر وغيرها من الوثائق الإدارية، وإنما الوطن هو مكان الذي نسكنه ونقيم فيه حضارة معينة بكل تجلياتها؛ فهو الحضن والملاذ الآمن الذي تأوي إليه أرواحنا، والبيت الكبير الذي يجمع الأهل والأحبة أحياء وأمواتا، إذ نولد فيه ونتربى ونترعرع ونكبر في كنفه ونتمنى أن نموت وندفن فيه، فالوطن هو الرابطة التي تشدنا أينما حللنا وارتحلنا؛ لأننا نحن البشر من دون وطن ننتمي إليه مثل الطيور بلا أعشاش وأوكار تأوي إليها، لهذا ينبع حب الوطن من عمق القلب، ويتجسد في الكثير من الأشياء، ومن غير المعقول حصر الوطن وتقزيم دلالته ليصير مجرد أرض وأشجار وتراب وغير ذلك من الأمور غير المجردة، لأنه يبقى أكثر من ذلك على اعتباره مجموعة من الأشياء المادية والمعنوية التي لا يمكن فصلها أبدا.

  

وإلفُ الإنسان لوطنه وحبه له أمر فطري جبلي، وسبب هذا الإلف والمحبة وجود القرابات والصحبة، وذكريات الصبا، وتقارب الطباع والعادات الاجتماعية، واتفاق اللهجة وغيرها، لهذا نقول بأن: حب الوطن هو شعورا داخلي يحتل كل خلية من أجسادنا، إحساس عميق يجعل من المستحيل أن نتخلى عن وطننا أو ننساه أو ننسلخ منه، وبالخصوص إذا كان يحمل ذكريات كثيرة ومشاعر فياضة تثير تفكيرنا وتحرك وجداننا وضمائرنا، إنه من أهم الأشياء الجميلة والرائعة التي تبصم على تميزنا، لذلك نجد العديد من البشر حول العالم يحتفظون بالوطن بداخل قلوبهم، وهذا ما نراه بوضوح في المواطن الذين تم تهجيره من وطنه إلا أنه بالرغم من ذلك مازال يحتفظ بوطنه في داخله.

  

الحب الذي نتحدث عنه فيه إنكار مبالغ للذات، بحيث أن العلاقة الوجودية بين المواطن والوطن يصير فيها الحب والولاء مفرطا جدا وغير منحصر في الأفراح والمسرات والمناسبات العارضة

لكن حديثنا عن حب الوطن سيخرج عن هذا النطاق الذي ذكرنا، لأننا سوف نتحدث عن حب غير عادي؛ أي الإفراط في حب الوطن وتجاوز الحد الطبيعي من الحب الذي قد يصل في بعض الحالات إلى نوع من الارتباط الهوسي الذي لا تفسير منطقي له، وسنتطرق إلى تفصيل هذه النقطة من مختلف الزوايا التي لها علاقة به، لكي يكون التحليل المقدم سامحا بطرح إمكانات متعددة للفهم وفضاءات أرحب للإيضاح وإظهار حقيقة أمر هذا النوع من الحب، والفصل في شأن الغموض القائم لتكون الصورة المرسومة تصوّر على جلاء حب الوطن الذي لن نحسد عليه.

 

إن الحب الذي نتحدث عنه فيه إنكار مبالغ للذات، بحيث أن العلاقة الوجودية بين المواطن والوطن يصير فيها الحب والولاء مفرطا جدا وغير منحصر في الأفراح والمسرات والمناسبات العارضة، بل ويتبدى ذلك في كل الأمور والقضايا الشخصية والعامة بمختلف حالاتها، لأنه تم التخلص من كل أوضار الرؤى المصلحية البرغماتية التي تربي الفرد على الأنانية والشوفينية بمعزل عن كل القيم السامية التي يحملها حب الوطن، وهذا لا يمنع في هذه الحالة التي خصصنا لها حديثنا من بعض التصرفات التي تخرج المرء عن دائرة الصواب بالمعنى المصلحي، وقد تضعه في مواقف التضحية العظيمة التي لا يسقط فيه إلا المخلص الوفي في حب وطنه.

 

لهذا نقول أننا صادقون في حب وطننا ونحبه حبا خالصا، وليس ادعاء للحصول على مطامعنا الشخصية أو سبيلا لنيل أهدافنا الذاتية، فنحن نحبه من دون رفع الشعارات الجوفاء التي ظاهرها الولاء والحب وباطنها حاجة في نفس يعقوب، وحبنا له يكون بالانتماء الحقيقي إليه، والسعي على نشر السلام في ربوعه، والمساعدة على إقامة الأمن فيه من أجل تعايش مسالم بين جميع أطياف أبناءه، مع الحرص على النضال والتضحية في سبيل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ونصرة المظلوم ورفض الظلم، ونبذ كل صور التسلط والعدوان الممارسة فيه بوسائل حضارية، لتحرير الوطن من الفساد الذي يعد العدو الحقيقي له بعيدا عن فتح الثغرات والجبهات الجانبية التي تخدم مصلحة الذين يريدون السوء والشر له.

 

ولا يعني حب الوطن السكوت على ظلم الأنظمة السياسية الحاكمة، كما أن المطالبة بالحقوق ليست مؤامرة وانفصالا عن الوطن وخيانته، والتطبيل والتضليل أيضا لا يعني الوفاء والإخلاص للوطن، وحبنا لوطننا لا يمنعنا من إدراك أنه يدار لحساب نخبة وليس لحساب عامة المواطنين، لكن هذا لا يحجم من قدراتنا على التضحية من أجله والانصراف للبحث عن مصلحتنا الخاصة، وتنازلنا عن أشياء جد مهمة لنا مقابل أن يحيا الوطن ناهضا ليس من الضعف في شيء بقدر ما هو نابع من حب صادق ووطنية متينة، ويبقى حب الوطن خير معين على استمرار جذوة الوطنية متوقدة، وهو من أهم الأسباب التي تجعلنا مصرين على حقنا في حياة كريمة، فلا وطن بدون وطنية حقيقية قائمة بذاتها، والشعب الذي لا يمتلك هذه الوطنية لا يساوي حتى قطيع الغنم في تماسكه وقوته.

 

إن حبنا للوطن لا يجعلنا ننفي أننا ضحية الحكومات المتعاقبة، لكننا في نفس الوقت لا نحمل جميع مظاهر فساد الوطن لأهل القرار فيه ولأهوائهم ونزواتهم، فنحن أيضا نتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية في ذلك، فبصمتنا الدائم وخوفنا من التغيير أصبحنا ضحايا أصحاب السلطة الذين يزيدون اغتناء ولا يقدمون لنا سوى النفاق السياسي عبر وعودهم التي لا تتعدى أن تكون مجرد أكاذيب وادعاءات باطلة، لكن حبنا للوطن يجعلنا من أكثر المنتقدين لوضعه ومن أشد المعارضين للقرارات السياسية القائمة فيه ولا يهدد فعلنا استقرار الوطن في شيء؛ مثلما تسوّق له السلطة والموالون لها من الذين يتهمون كل من يقوم بذلك على أنهم يثيرون الفتنة والفوضى وبأن أطرافا خارجية تحركهم، في حين أن حبنا لوطننا هو من يدفعنا لأن لا نخذله ونحرص على إيقاظ المواطنين الغافلين والمغفلين؛ عسى أن تنمو بذرة الإحساس بالكرامة ويزدهر الطموح لخدمة الوطن، والفرق بيننا وبين المسؤولين السياسيين أننا نحب وطننا بصدق، وهم يحبون المال والمناصب حبا جما، ونحن مستعدين للتضحية من أجله، أما هم إن جف الضرع فمستعدين على التضحية بالوطن وإحراقه بما فيه، هذه هي الحقيقة المرة التي نراها ونعيشها بكل جوارحنا ونتألم لما وصلت إليه الأمور في وطننا بفعل عبث العابثين واستهتار المستهترين وإفساد المفسدين.

 

كل ما قيل على الوطن هو نابع عن حب صادق له، بالرغم من أننا مصرون على أن المكان الجغرافي الذي لا تقدس فيه الأرواح ويعيش فيه الإنسان أقصى درجات الإقصاء الاجتماعي

أجل نقولها بملئ الفم يجب كشف خبث الفاسدين مهما علت درجتهم في سلم المسؤولية ومهما كان منصبهم عاليا في وطننا، والحق يعلو ولا يعلى عليه، ويجب أن نقول الحق ولو كان مرا، وطننا نخاف عليه كثيرا عندما نحس بأنه في أيد غير آمنة، لا يعني ذلك أننا نهاب السلطة الفاسدة، ونعلم يقينا أن الرضوخ لصنائعهم المقيتة سيأخذنا إلى المجهول، وعدم إنكار فسادهم علامة رضا عن ما يمارسونه من تضليل وتحايل ونهب بمختلف أشكاله، وسيجعلهم ذلك يزيدون في تماديهم ويظنون أن مكانتهم السياسية تمنعهم من المحاسبة، خصوصا وأنهم يعتبرون أنفسهم من أهل الفضل والإحسان على الوطن، وما ينبغي معرفته أنه لا يمكن أن يكون الوطن ظالما ولا الشعب مظلوما إذا ما استلمت السلطة وزمام تسيير أموره لحكومة وطنية حرة ترفض كل مقومات العبودية والمصلحة الشخصية من أجل بلدنا وتاريخه وحضارته، ومن المؤكد أن الوطن يظل مظلوما لمواطنيه حين تبقى إرادتهم غير فعالة ولا تغير في الواقع شيئا لأنهم لم يحركوا ساكنا لإعادة الوجه المشرق لوطنهم.

 

إن المتسلطون في وطننا أكثر الناس سعيا إلى خنق الحرية بتكبيل الكلمة الشجاعة، وتكميم الأفواه التي تنطق بالحق، والتضييق على الحرف الثائر الذي يظهر الحقيقة، ومحاصرة الرأي الحر والتعتيم عليه، وسلب واغتصاب الطموحات المبنية على أساس شريف ونزيه، لقد أصبحنا في وطننا نحاكم بالوجاهة والنفوذ والأموال، ولم نعد جميعا متساويين بكرامتنا وإنسانيتنا ووطنيتنا، ولكن مهما قاسينا فيه سنبقى أبد الدهر لا نرضى بأن نجحد به وإن جرى ما جرى، ولن نتخلى عنه مهما كانت المغريات والعروض المقدمة لنا جذابة ولا تقاوم، ومن المستحيل أن نعتبر وطننا مجرد محطة عابرة نرحل منه متى ما ساءت الأمور فيه ونتركه عرضة للمخاطر الجسام، وبالمحصلة يعنينا وطننا كثيرا وسلامته ورفعته ونهضة إنسانه وكيانه في المقام الأول عندنا.

  

سنظل نكذب على أنفسنا كل ليلة ونقول بأننا سننام مرتاحي البال، لكن هموم وطننا توجعنا وتشطرنا وتبعثرنا هنا وهناك، ترى من سيعيد لوطننا البهاء والعزة؟ ألم يحن بعد الوقت للتخلص من وهم ولادة النموذج التنموي والنهضوي الشامل والمستدام الذي لن يأتي أبدا من تلقاء نفسه في ظل الأوضاع القائمة؟ إن حصول ذلك كله يستدعي المرور بمخاض عسير يتطلب صبرا دؤوبا واصطبارا حقيقيا ومتابعة متواصلة، ولعل التجارب السابقة علمتنا بأن حبل النزاهة والمصداقية متين، والتاريخ لا يرحم وسيكتب يوما بأن إفراطنا في حبنا للوطن جعلنا نقسو بألسنتنا وأقلامنا، لكن رغم ذلك فقساوتنا أرحم من قساوة طغيان وعناد وإصرار أصحاب القرار السياسي على الإساءة لهذا الوطن.

  

كل ما قيل على الوطن هو نابع عن حب صادق له، بالرغم من أننا مصرون على أن المكان الجغرافي الذي لا تقدس فيه الأرواح ويعيش فيه الإنسان أقصى درجات الإقصاء الاجتماعي ليس موطنا صالحا للعيش الكريم إلا أننا نعتبره وطنا لنا، لكننا في نفس الوقت نصفه بالوطن العاق لنا، وهذا لا يمنعنا من العمل بكل ما أتينا من جهد لكي يصبح وطننا دارا دافئة حقوقيا ومصانة الكرامة فيه، ولن يتم ذلك من دون التخلص أولا من السياسيين الذين لا تهمهم في وطننا سوى مصالحهم الشخصية، ولا يألون جهدا ولا يتركون طريقا لنيلها إلا وسلكوه حتى لو كانت طريق الشيطان، وخلاصة القول أوطاننا لن تتحرر من الفساد الذي نخرها على جميع المستويات ما لم تحصل فيها ثورة ثلاثية الأبعاد؛ ثورة ضد الظلم، وثورة ضد التفقير، وثورة ضد التجهيل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.