شعار قسم مدونات

رجل ضمن النساء.. الجندرية في أطوارها وتطبيقاتها

blogs رئيس وزراء لوكسمبرج

صار من المألوف أنْ يظهر "رجل" معروف، أو مَن يبدو أنه كذلك، ضمن صورة تجمع نساء قادة التحالف الأطلسي. إنه البلجيكي غوتير ديستناي، الذي ينخرط في البرنامج النسائي الذي يُقام على هامش أعمال القمة السنوية لحلف شمال الأطلسي "ناتو". ما أهّل غوتير للظهور في هذه الصورة ليست شهادة الهندسة المعمارية التي يحملها؛ وإنما حظوته بصفة "زوج" رئيس وزراء لوكسمبورغ كزافييه بيتل؛ وعلى هذا الأساس يتصرّف غوتير ديستناي ويستجيب معه البروتوكول الرسمي الأممي كلّ سنة. وإنْ ظهر ديستناي رجلاً وحيداً في صورة نسائية تذكارية تجمع أزواج قادة "الأطلسي"؛ فإنّ الخطاب الجندري لن يعجز عن أن يُسبِغ عليه صفة "امرأة" أو قريباً من ذلك؛ إن اعتَبر هذا الرجل ذاته كذلك، علاوة على أنّ لوكسمبورغ شرعَنت هذه الآصرة "الزوجية" سنة 2014 ومنحت "أزواجها" حق تبنِّي الأطفال أيضاً.

 

تُقرأ هذه الصورة من زاويتيْن، عادة، أولاهما من منظور "الحقّ في الحضور الاجتماعي" لأشكال الاقتران كافّة؛ وثانيتهما من منظور تهشيم المعيار وسيولة المفهوم ونَفْي المعنى؛ فلا يحمل الاقتران أو الزوجية معنى محدّداً، وتفقد صفةُ النساء أو الرجال دلالاتها المحدّدة المتوافق عليها في المجتمعات عبر التاريخ، تجسِّد الصورة الجماعية السنوية لنساء قادة "الأطلسي" تحوّلاً يسري هادئاً في بعض المسارات وينطلق جارفاً في غيرها؛ وقد يقتلع ما في طريقه في بعض المنعطفات التي تعترضه. يواصل هذا المقال الإبحار مع الجندرية، عطفاً على المقالين السابقيْن، أولهما: أيديولوجيا جندرية.. أنثى أم ذكر أم اختيارات أخرى؟ ، وثانيهما: طريق العدمية السريع.. إنجاب حسب العقيدة الجندرية.

  

صرامة عقائدية ونزعة أصولية

تقوم العقيدة الجندرية على فصل صارم بين ما تسميه "النوْع البيولوجي" و"النوْع الاجتماعي"، وهو مفهوم يستند إلى مقولات تأسيسية تنزع إلى أسبقية الوجود على الماهية، أو بتعبير سيمون دي بوفوار بأنّ إحداهنّ "لا تُولَد امرأةً؛ بل تصبح كذلك"، وهي مقولة قد تحتمل وجوهاً تأويلية مقبولة نسبياً وقد تُؤخَذ على ظاهريّتها لتحمل دلالةً إطلاقيّة متطرِّفة، إنّ الاجتماع البشري، في سياقاته الثقافية والتاريخية، حسب هذه السردية، هو ما يُحدِّد الذّكَر ويحدِّد الأنثى، أو يُصنِّف الرّجل والمرأة؛ فيكون "النوع الاجتماعي" مستقلاً عن "النوع البيولوجي". وإنْ لمْ يُنكَر التأثيرُ الاجتماعيّ (الثقافي/ التاريخي) في مفهوم الذُّكورة والأنوثة، أو الرّجل والمرأة، وما يترتّب على ذلك من مواقع وأدوار؛ فهل يصلح هذا مبرِّراً لنفْيٍ إطلاقيٍّ للأثر الاجتماعي لما يسمّى "النوع البيولوجي" ذاته؟ ألا تجرّ السِّماتُ البيولوجية والفسيولوجية والنفسية ونحوها تأثيرات جَلِيّة أو محتملة على الإنسان، أو لِنَقُل "النوع الاجتماعي"؛ ماضياً و/أو حاضراً؟

  undefined

(رئيس وزراء لوكسمبورغ كزافييه بيت وزوجه غوتير ديستناي)

    

استسهل العقائديّون الجندريّون اختزالَ النّوْع الأوّل بـ"البيولوجي" أخذاً بتجريد ظاهريّ وتشريحيّ للجسد، وتشدّدوا في إنكار أيِّ تأثير لـ"النوع البيولوجي" عيْنه في الواقع الاجتماعيّ والثقافيّ. فرَض هذا المنظور إسقاطاتٍ من قبيل عَزْل كلِّ سُلوكٍ مُتمايِز عن هذا "البيولوجي"، حتى عندما تفترق اختياراتُ الأطفال في متاجر الألعاب فيختار الصبيُّ اللّعِبَ بسيارة وتختار الصبيّةُ اللّهوَ بدُمْيَة، أو لدى ملاحظة اختلاف أساليب التعامل مع اللُّعبة الواحدة؛ كأنْ يباشر الصبيُّ تفكيكَ دُمْيَة وتباشر الصبيّةُ التعاملَ مع سيّارة على نحو غير معهود في لَعِب الصِّبْيان.

 

إنّ الحِجاج الأصولي الذي يُشدِّد على عزل "البيولوجي" عن "الاجتماعي" يواجه مأزقه مع سلوكيّات اجتماعية مُتبايِنة بين الجنسيْن/ "النوعيْن" لا يُتوقّع أن تَصدُر بمطلقها عن السِّياق الثقافي/ التاريخي. لا تعجز الأيديولوجيا الجندرية رغم ذلك عن خوْض مغامرات التفسير والتبرير استناداً إلى منطقها الخاصّ الذي اجترحته ابتداءً، مثل افتراض التعبئة المبكِّرة في الحاضنة الأسرية أو لجوء "النّوْع" إلى تَملُّق توقّعاتٍ اجتماعية منه؛ لتبرير تبايُنِ سلوكِ الوقوف إزاء المرآة مثلاً أو فوارق التعامل مع الحُلِيّ والملابس بين الإناث والذكور، وقد تجد التبريرات الأيديولوجية في بعض التأويلات الفرويْدية ما يُسعفها في هذا الشّأن. ثمّ إنّ تطبيقات الجندرية تُحَرِّض على تقمّص السلوك المُغايِر ليس عند الراشدين وحدهم؛ وإنما في أوساط الشبيبة والطفولة أيضاً؛ بما أنها تُعبِّر لديها عن "ميول" كامنة أو "توجّهات" مكبوتة.

 

يحسم الخطابُ الجندريّ، أو الخطابات بالأحرى، هذه المسألة بالنزوع إلى ما تبدو – أحياناً – وثوقيةً قطعيّةً مُتعالية، وهذا من الوفاء لمقولات تأسيسية صارمة كالتي عبّرت عنها سيمون دي بوفوار وجوديث باتلر وغيرهما. رأت بتلر مثلاً أنّ الشخص بوسعه أن يختار "النّوْع" الذي يريد، وهي مقولة سيكون لها تأثير تحفيزيّ باتجاه "اختيارات النّوْع" بصفة مستقلّة عن الخصائص "البيولوجية" و"الفسيولوجية" وأخواتها. مضى الموقف الجندريّ الذي يرفض التحديد المُسبَق؛ إلى افتعال فِصامٍ في كيان الإنسان بمحاولة حصر التمايُز الذاتيّ في "النوْع البيولوجيّ" كي يبرٍِّر موْقفَه، مع عَزْل "الاجتماعيّ" بصرامة عن الكيان الإنساني المستقلّ، بما يقضي بانتفاء هُويةِ الإنسان المتجاوزة للجسد التشريحيّ في لحظةِ انبثاقه إلى الحياة أو بما يفيد تحييدها على أساس هذا الصّدْع المُتصَوّر.

 

تثوير "الاجتماعي" على "البيولوجي"

أطلق فَصلُ "الاجتماعيّ" عن "البيولوجيّ" العنانَ لتثوير الأفراد والمجتمعات على "البيولوجي" ذاته، فإنْ عُدّ في هذه العقيدة أنّ المجتمع في سياقه الثقافيّ/ التاريخيّ هو الذي يحدِّد بـ"سَطْوته" ما يعنيه الذكر/ الرجل أو الأنثى/ المرأة؛ يصير الفرد بهذا المعنى مدعوّاً إلى "الاستقلال" باختياره "المتحرِّر" من هذه "السّطوة" التي "تَفرِض عليه مَن يكون حسب مفاهيم متغيِّرة تاريخياً وثقافياً". ولمّا كانت المفاهيم "متغيِّرة"؛ فإنّ التغيير المدفوع منهجياً أو المُحفَّز بإرادات اجتماعية جديدة تعزّزها استراتيجيات محبوكة في الحياة الثقافية والمجتمع المدنيّ؛ يصير مُسَوّغاً أكثر من أيِّ وقت مضى، وقد يُعَدّ فعلاً استردادياًَ للاستقلال الذاتيّ في نطاق الفرد الذي ينشد صَوْغ "هويّته" كما يروق له أو تروق لها في لحظة تاريخية ما، ولا تثريب عليه إن تقلّب بين هُويّة وأخرى مع كلِّ موسم.

   

تفرض هذه السّردية الحَدِّيّة موقفاً رافضاً للانضباط والانتظام، وتصير الفضيلةُ أو الصّلاحُ عندها رضوخاً لتواطؤات اجتماعية متراكمة تاريخياً تقوم على الكبْت أو القمع

تُغري تجزئةُ الإنسان كما هي متصوّرة بالتعامل الأداتيِّ مع الجسَد، بما يقضي بفصل الجسد عن الإنسان أو نزْع "الإنساني" عن "البيولوجي" بالأحرى؛ بما يتيح انفلات الرغبات على نحو قد يقترب معه "البيولوجي" المجرّد من سِمات البهيميّ؛ ولعلّه يتماهى معه في بعض الاختيارات المسلكية التي تتقمّص سلوكاً حيوانياً ظاهراً خلال الممارسة الجنسية وتتخيّر ألفاظاً وأدواتٍ وملابس تتجاوب مع هذه النزعة المتردٍّية. إنّ اعتبار الجسد أداةً حسِّيّة مجرّدة يقتضي تمليكه فرصَه الحسِّية الجامحة مع التملّص من أيِّ التزامات ومسؤوليّات تترتّب على ذلك إلاّ في ما يعتبره المشرِّعون تعدِّياً على آخرين لانتفاء الطوْعيّة أو حريّة الاختيار أو السنّ القانونيّة. تسأم هذه السردية ممارسة أيّ "كبْت" أو فرض أي "قيْد" أو إيقاع أي "حرمان" أو سَنّ أي "تنظيم" مما يحدّ فرص الجسد الحسِّيّة، وقد يُعَدّ مِثْلُ هذا تعبيراً عن سطوة المجتمع أو الثقافة على الفرد و"اختياراته". ذلك أنّ "تحرير" البيولوجي من قيد الاجتماعي هو من تعبيرات "التحّرر" بمقتضى العقيدة الجندرية. 

   undefined

 

تفرض هذه السّردية الحَدِّيّة موقفاً رافضاً للانضباط والانتظام، وتصير الفضيلةُ أو الصّلاحُ عندها رضوخاً لتواطؤات اجتماعية متراكمة تاريخياً تقوم على الكبْت أو القمع. إنّ مفهوم التمرّد على "الاجتماعي" يرتدّ إلى محاولة الانعتاق من "البيولوجي" ذاته؛ عبر تطبيقات "التحوّل الجنسي" مثلاً أو بتقمّص الجنس/ "النوْع" الآخر في الهيئة والمسلك، أو غير ذلك من الخيارات المعروضة في سُوق التحوّلات "الهويّاتية" الفردانية المضطربة. فللمرء، وفق هذا المنطق، أن يختار مَن يكون بكلِّ ما يعنيه هذا في الواقع وبما يترتّب عليه من احتمالاتٍ وخياراتٍ في التطبيق.

  

ترتّبت على هذه العقيدة مواسمُ جدلٍ في بعض البيئات، منها ما أعلن، مثلاً، الاعتراضَ على التصنيف الثنائيّ لدورات المياه بين ذكور/ رجال وإناث/ نساء، وصعدت في السِّياق – لأسباب بعضها "جندري" مُؤدلَج وبعضها وظيفيّ عملانيّ – شعاراتٌ مندِّدة بالحالة؛ منها "أبارتايد المراحيض"!، وتعدّدت المطالبات بين اللُّجوء إلى خيار موحّد، أو استحداث نسخة ثالثة لمَن لا يجدون أنفسهم "جندرياً" في الخانتيْن "التقليديتيْن" للإناث والذكور، وهو ما يجري تطبيقه على مستوى دورات المياه في بيئات عدّة.

 

مع نَبْذ الأدوار الاجتماعية "النمطية" تصير مجاراة هذه الأدوار تملُّقاً مرذولاً أو رضوخاً مقيتاً بالأحرى. لا تكتفي النزعةُ باستحقار "المكوث في المطبخ" (انصبّ الاستحقار التقليدي على العمل في المطبخ المنزلي الخاصّ، مع استحباب الانصياع لتعليمات العمل "الذكورية" في المطبخ العام الكبير ضمن معامل الصناعات الغذائية مثلاً!) لتصل إلى موقف مُضادّ جذرياً لأدوار الحمْل والإنجاب، ولا تُعَدّ الأمومة في هذا المقام امتيازاً للأنثى على الذّكَر في الدّوْر والمشاعر.

  

أيديولوجيا صراعية واستراتيجيا تقويضية

من عادة العقيدة الجندرية أن تهبط على المجتمعات "مِن فوْق"، ضمن مواثيق ونصوص مُنمّقة، وأن تتسلّل مقولاتها عبر مناهج ودورات محبوكة أو تعبِّر عن ذاتها بهدوء كامن في مضامين ثقافية وإعلامية وفنية بصفة قد لا تُلحَظ لغير العين الفاحصة؛ لكنها تتقدّم في مشهدها الإجمالي المُعولَم بصفة أيديولوجيا صراعية واستراتيجية تقويضية تنزع عن النظام الاجتماعيّ القائم شرعيّتَه بصفة تنشد تفكيكَه لصالح نَفْي النظام؛ وإنْ لم يرغب جميعُ المنتسبين إلى الحالة بذلك، وترفض العقيدة الجندرية الثّبات، فهي تسعى إلى فرض الانصياع لسيولة نسبية لا تملك إلاّ أن تُفضي إلى عدميّة في مآلاتها؛ فهذه العقيدة بأصولها وفروعها ومقتضياتها وتبعاتها مؤهّلةٌ لأن تجرف في طريقها آصرةَ الزّواج ومفهوم الأسرة والعلائق الوالدية ووشائج القرابة؛ فتفرض عليها جميعاً متواليةً لا نهائية من عمليات إعادة التعريف وإسقاط المفهوم ونَزْع المعنى وإغراق الجمهور بتصنيفات اصطلاحية لا يحدّها حدّ.

 

ليست الجندريةُ عقيدةً منزوية أو فرقةً باطنية، فهي تمارس التبشير النّشِط حسب طرائق مُعصرَنة لكسب الأتباع عبر أقاليم الأرض، فيتحرّك مبشِّروها في الاتجاهات النمطية ذاتها تقريباً التي عرفتها مسارات التبشير الكنسي السّالفة

تتناقض فكرة القبول بالنظام الاجتماعي القائم مع الأسس الفلسفية للجندرية التي تأنف الثّبات وتنبذ النمطية وتنقض الهيكلية وتوزيع الأدوار وتحديد المسؤوليات بناء على ما تسمِّيه "النوع البيولوجي"، فهي تضع الفرد الذي ينساق خلف "ميْله" المفترض أو "توجّهه" المُتصوَّر في مركز المشهد الذي عليه أن يتشكّل على هذا الأساس، قد تأتي الأيديولوجيا الجندرية، فوق هذا، مُشبّعةً بنزعة تكفير قيميّ بحقّ مَن لا يتماشى معها؛ فيصير بمروقه من المحفوظات – المفروضة حتى دون نقاش ديمقراطيّ أو تشاوُر مجتمعيّ – مُنْحَلاًّ من الالتزامات المبدئية والقيمية ومُنْسَلاّ من المواثيق المغلّظة التي تدين مخالفيها؛ فألواحُها تُرفَع عالمياً إلى مراتب الكتب المقدّسة التي تُقتَبس منها التعاليم وتُجتَزأ منها الوصايا، وإنْ لم يتّضح هذا التزمّتُ الأيديولوجيّ في مرحلة التبشير الجندريّ الذي يخالج المجتمعات "المُحافِظة" على استحياء؛ فقد تستبين شواهدُهُ تباعاً مع رسوخ الاعتقاد الأيديولوجي المترتِّب عليه؛ بما يفرضه  من برامج عمل تدفع بتحوّلات جذرية تخرج عن السيطرة؛ على نحو لم يقصده بعض المبشِّرين المحلِّيين بهذه العقيدة التي استهوتهم بعض شعاراتها ومبرِّراتها أو استحوذ بريقُها على أذهانهم ووجدانهم.

  

 
من الأفكار إلى العقيدة والأيديولوجيا

ما عادت الجندرية أفكاراً فلسفية أو اجتماعية أو تصوّراتٍ نظرية وحسب؛ فقد تخلّقت في هيئة عقائدية متصلِّبة تستند إلى جهازها المفاهيمي الخاصّ الذي إليه تحتكم، وتميل إلى الثبات الصارم في المقولات رغم نسبيّة النزعة وسيولة المفاهيم التي تنطوي عليها. ومن علامات تحوُّل الجندرية من الفكريِّ المتحرِّك إلى العقائدي المتصلِّب أنْ تحصّنت بمحرّماتها الاجتماعية/ الثقافية فصارت لها "تابوات" مغلّظة تستعلي على النِّقاش وتغلق أبواب الاجتهاد وتصادر حقّ التأويل في الأصول لتحصره في التفريع عنها واشتقاق مقاربات التنزيل في الواقع. من المُحرّمات الجندرية، مثلاً، استدعاء سِمات الاختلاف البيولوجي والفسيولوجي بين الذّكر والأنثى أو الصُّدور عنها أو مراجعة الأحكام التأسيسية التي استند إليها بنيانُها العقائديُّ في هذا الشأن. يبدو مفهوماً، إذاً، أن يُلحَظ نفور ظاهر بين أقسام الدراسات الجندرية التي استُحدثت بكثافة في الجامعات؛ ونظيرتها المستقرّة في حقول الأحياء والتشريح ووظائف الأعضاء وبحوث الدماغ وغيرها.

 

وإنْ بدت الآراء الجندريةُ في بواكيرها الفلسفية/ الاجتماعية معروضةً بنسخها ومقارباتها للأخذ والردّ في سوق الأفكار وتدافعاتها؛ فإنّ العقيدة الجندرية تَبَلْوَرَت من بعدُ على النّحو المشهود فدخلت طَوْراً يتجاوز مسعى البحث عن المشروعية في الفضاء التداولي؛ إلى تحرِّي تشكيل المرجعية المجتمعية ضمن أقاليم معيّنة وبصفة مُعولَمة أيضاً؛ وأخذت تُنافِس على منْح الشرعية أو حجبها في واقع الصِّفات والأواصر بكل ما يعنيه ذلك بالنسبة لاستقرار مداميك النظام الاجتماعي، ما كان للعقيدة الجندرية أن تبلغ هذا المبلغ دون أن تنحت ألواحاً تُقدِّسها، وهي تتجلّى في هيئة مواثيق وإعلانات ونصوص مرجعية بها يُحتجّ وإليها يُحتَكم؛ فصارت بين عشيّة وضُحاها – في المنظور التاريخي للزّمن – حجّةً على شعوب ومجتمعات لم تُستَشر بشأنها.

  

ليست الجندريةُ عقيدةً منزوية أو فرقةً باطنية، فهي تمارس التبشير النّشِط حسب طرائق مُعصرَنة لكسب الأتباع عبر أقاليم الأرض، فيتحرّك مبشِّروها في الاتجاهات النمطية ذاتها تقريباً التي عرفتها مسارات التبشير الكنسي السّالفة؛ من الشّمال إلى الجنوب. يبرز المبشِّرون الجدد بحقائب منظمات غير حكومية ومواقع أكاديمية وهيئات متخصِّصة تُقيم أيّاماً دراسية وتنظِّم دوراتٍ تدريبية وتوزِّع أدلّة عمل تطبيقية عبر العالم. تجود هذه الإرساليات التبشيرية بتعاقداتٍ وأُعطِياتٍ سخيّة على وكلاء محليِّين تتوسَّم فيهم النجابة وحُسْن الانقياد ممّن لا تعبث الشكوك برؤوسهم فتفسد عليهم عقيدتهم المجتمعية الجديدة.

 

لا يصحّ بالموقف من الجندرية أنْ يقوم على تعميم إجماليّ يغفل عن مستوياتها ومسالكها وتمظهراتها، فكرياً وعقائدياً وأيديولوجياً، أو أنْ يتجاهل تَمرحُل أطوارِها، فقد تشبّعت ابتداءً بنزعة تنبذ السلطوية ثم آل أمرها إلى أيديولوجيا تتحرّى فرض أحكامها دون أن تعفّ عن الاستقواء بالهياكل السلطوية المُعولمة (الأمم المتحدة مثالاً) ومحاولة الانتفاع من علاقات الهيمنة الناجمة عن الاختلال المزمن في منسوب الحظوة والنفوذ بين أمم متصدّرة وأخرى تابعة، يُعبِّر بعض معتنقي العقيدة الجندرية في تحرُّكهم في الواقع وفي توجّههم إلى الجمهور عن أيديولوجيا جندرية تُلحَظُ أماراتُها في التعبئة الجماهيرية والتشكيلات الحركية والمنظمات المتخصِّصة. تُطلَب "الحقائق العلمية"، في هذه الأيديولوجيا، انتقائياً من نتائج البحوث والتجارب التي تخدم المقولات العقائدية المعتمدة مُسبَقاً دون غيرها، كما يتجلّى في الاضطراب الحاصل في الموقف من بحوث الدِّماغ أو الشيفرة الوراثية مثلاً حسب ما تَخرُج به من نتائج مستجدّة بين موسم وآخر.

  undefined

  

لم تعد الجندرية أفكاراً وحسب؛ فهي ماضية في اجتراح وقائع مجتمعية تصدُر عن أحكامها بصفة عقائدية، ولا تحتمل العقيدة في حالها هذه تعايشاً أو مُساكنةً مع النظام الاجتماعي الذي تنبذه ابتداءً وتنزع عنه الشرعية التاريخية المستقبلية؛ فهو في منظورها نتاج إملاءات ثقافية وتواطؤات اجتماعية ماضوية ينبغي التحرّر منها والتمكين لما يُعاكِسها. يجدر في هذا المقام التفريق بين سلوك الخطاب الجندري في موقف التبشير ونظيره في موقف التمكُّن، فما يعرضه بعض الوكلاء المحليّين في الأمم التابعة إنما يقوم على الاجتزاء والتنميق والتسويق التوفيقي للمحفوظات الجندرية، وإن لم يدرك الحفظةُ المخلصون هذا من أنفسهم، مع التركيز على دواعي ما قبل النضوج العقائدي؛ مثل مكافحة التمييز ضد المرأة وتجاوز الأحكام المجتمعية التي لا تناسب العصر، ونحو ذلك. من شأن هذا أن يفسِّر جانباً من الفوارق الملحوظة في التعبير عن الخطاب الجندري وتطبيقاته بين أوروبا والعالم العربي مثلاً؛ أو بين فضائيْ التمكين النسبيّ الصاعد والتمدّد التبشيري المتزايد.

 

ليسَت الجندريةُ في تمظهُرها العقائديّ معروضةً لنقاش مُنفتح على الاجتهادات التأسيسية أو المراجعات الجوهرية؛ فمدار النقاشات المُتّصلة بها في منصّاتها ومنابرها الجماهيرية بعد استقرار بنيتها العقائدية؛ أنها أحاديّة الاتِّجاه الذي يأتي تفسيرياً لمقولاتها أو إقناعياً بمحفوظاتها؛ أو لِتَحَرِّي الامتثال لتعاليمها وكيفيّات تنزيلها في الواقع مع التشنيع على مخالفي المُعتَقَد ووَصمِهم التعميميّ بنعوت تُعدّ ذميمةً في سياقها، تقرِّر الجندريةُ المرجعيةَ التي ينبغي أن يُحتكم إليها؛ بما سينتهي حالَ التمكين لها إلى فرض سلطتها الأيديولوجية على طريقتها. أحدثت الجندرية قفزتها بتحويل تصوّراتٍ مخصوصة إلى عقيدة محدّدة لا تحتمل سوى أن تؤخذ جُملةً أو تُترَك جُملة طبقاً لمعاييرها الخاصّة، ومن تمظهراتها أن تُستلّ منها أنظمةٌ وموجّهاتٌ مجتمعية ومدوّنات سلوكٍ تكون معروضةً ضمن مساحة التوجيه أو مفروضةً ضمن مساحة الإلزام، ومن شأن المروق من هذه العقيدة أن يُفضي إلى تكفير قيمي صريح أو رمزي؛ باعتبارها عقيدة متذرِّعة قيمياً ومسيّجة بشعارات مبدئية مغلّظة.

 

المغامرة الجندرية وتفريخ "الهويات"

جَنَح المفهومُ الجندريُّ إلى تحويل الصِّفة من الثّبات والتّحديد إلى السيولة والنسبية؛ بالاعتماد على الانطباع الذاتيِّ أو التصوُّر الفرديِّ لصاحبه. إنّ التسليم بهذا المنطق في ما يسمّى "الهوية الجنسيّة"؛ من شأنه أن يُفَرِّخ أحكاماً على منواله في حقول أخرى؛ فما الذي يمنع أحدَهم من أن يتصوّر ذاته صينيّاً أو كونغوليّاً أو مكسيكيّاً إن وَجَد مِن نفسِه "ميْلاً" أو "توجّهاً" في هذا الشأن بمقتضى سؤال "الهوية الثقافية"؟ وللمنطق الهلاميِّ ذاته أن ينساح بلا حواجز تحدّه؛ كأن يقرِّر أحدهم تعريف ذاته بما يتجاوز هوية "النوع البشري" وليس "النوع الجندري" وحسب؛ فيطلب من المجتمع أن يعترف به بصفة حيْوان أليف مثلاً أو كلب مدلّل أو قطّة ودودة أو حَمَل وديع أو قِرد ضاحِك، وثمة تطبيقات سلوكية يمكن افتراضها لكلِّ من هذه "الاختيارات الهويّاتية" تقوم على التقمّص والمحاكاة.

 

وإن سوّغ بعضُهم هذا "الاختيار الهُوياتيّ" وحشَد له المبرِّرات؛ فإنّ التسويغ سيفرض استحقاقاتٍ لاحقة، من قبيل إقامة أواصر الاقتران أو إثارة قضايا تبنِّي مواليد من هذه الكائنات استجابة لرغبات منعقدة عند مَن يَرَوْن ذلك "حقاً" لهم وينبذون "التفرقة" بحق "ميولهم" و"توجّهاتهم". يا لها من مغالاة ظاهرة في الأمثلة المفترضة! لكن؛ ألا يَكمُن مَنبَتُها في منطقٍ يمنح الفردَ حقّ تقرير صِفَته الكيانية وهُوَيّته الأوّلية على نحو انطباعيّ مفتوح على تحوّلات وتقلّبات لا تلوي على شيء؟ إنّ رَفْضَ أحكامٍ فردية انطباعية كهذه لا بدّ له أن يعتدّ بخصائص "النّوْع البيولوجي" الظاهرة فيُقيم الحجّة الدامغة على التصوّر المنحرف عن الأصل، لكنّ العقيدة الجندرية ترفض هذا ابتداءً وتمنح الحقّ، كلّ الحقّ، للتصوّرات الذّاتيّة أو الأحكام الانطباعية الذاتية عن "الهوية" في أن تقرِّر ما يكون الفرد وتسويغ ما يترتّب على ذلك صفةً ومسلكاً ووشائج، وهي تنبذ مفهوم الانحراف أساساً لرفضها التسليم بالأصل المعياري والاستقامة المتصوّرة.

 

تكشف محاولةُ إسقاط المفهوم الجندري على أبعاد "هويّاتية" أخرى مدى المغامرة التي يخوضها هذا المفهوم، فعلى منواله يجوز لشخصٍ أسمر البشرة أن يعتبر نفسَه أبيض البشرة، أو العكس، وأن يُصِرّ على تثبيت هذه الصِّفة في أوراقه الثبوتيّة. وقد تُستدعَى السرديةُ إيّاها بالتفريق بين السِّمة "البيولوجية" الظاهرة والسمة "الاجتماعية" التي يُسقطها المجتمع بأحكامه المتغيرة ثقافياً وتاريخياً على الفرد "الأبيض" ونظيره "الأسمر"، وقد يُقالُ بالمنطق ذاتِه الذي عبّرت عنه سيمون دي بوفوار في شأن المرأة والرجل؛ إنّ الأسمر لا يُولَد أسمراً؛ وإنّما البشرية أو المجتمعات هي من تَجعله كذلك. ليس من شأن أيِّ أطروحة ثقافية، بالأحرى، أن تنفي التصوّرات الاجتماعية التي أُسقِطت على "السُّمْر" كما على "البِيض" وقد تشبّع بعضُها بسُلالية ذميمة وعنصريةٍ بغيضة. ألا يصير من "حقّ" أحدهم، إذاً، أنْ يرفض تعريف ذاته أو مواصفاته من خلال "تصنيف بيولوجي ساذج"، طبقاً لهذه السردية؟

 

يتّضح بمزيد من الأمثلة السخيّة والإسقاطات الفجّة على هذا النحو؛ أنّ المفهومَ الجندريَّ مؤهّلٌ بنزعته النسبيّة السائلة لتفريخ أحكامٍ مذهلة على منواله في حقول أخرى، علاوة على أنّ من شأنه في العاجل أو الآجل أن يفتح البوّابة على مصراعيها لاعتماد "هويات جندرية" يتعاظم عددُها باضطراد وبلا حدّ مستقبليّ يحدّها، طالما وُجد مَن يعتبر نفسه شيئاً مغايراً عن كلِّ التصنيفات التي تتطاول بها قوائم "النوع الاجتماعي" موسماً بعد موسم، يواصل المقال التالي الإبحار مع هذه القضية ومنعطفاتها الحادّة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.