شعار قسم مدونات

تونس.. حكومة تتشكل على حافة الهاوية

blogs تونس

إن المتأمل في الواقع السياسي الحالي للبلاد التونسية يلاحظ غلبة الطابع اللاعقلاني على سلوكيات وتصرفات وقرارات أغلب النخب السياسية والإعلامية والثقافية مهما علا شأنها أو قل فكريّا أو أخلاقيّا. ذلك أن الخطاب السياسي السائد تنتصر فيه المغالبة الأيديولوجية العنيفة – التي تهدد في كل لحظة بتحول الصراع من عنف لغوي إلى عنف حقيقي يحرق الأخضر واليابس ويدخل البلاد في أتون حرب أهلية لا مخرج منها: إنه خطاب على حافة الهاوية – على الحوار العقلاني المنتج.

  

لقد حملت الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة رسالة واضحة للقوى السياسية في تونس مفادها أن الشعب التونسي ملّ الجدل الإيديولوجي والهووي العقيم وأنه يريد من الجميع التركيز الآن على المطالب الاجتماعية والاقتصادية للشعب حتى يتحقق أهم أهداف الثورة في الشغل والكرامة الوطنية بعد أن تحققت أو تكاد الأهداف السياسية في الحرية والديمقراطية. وهي رسالة واضحة لا لبس فيها لا ينكرها إلا جاهل أو أحمق.

 

هذه الرسالة الواضحة التي فهمها كل العالم إلا النخبة التونسية التي تعاني من العمى الأيديولوجي. ولا تزال تتمسك بعقلية متحجرة متخلفة بالية من رواسب الحرب الباردة بين الشيوعية والرأسمالية وبين التقدميين والمحافظين. إنها عقلية ستينية سبعينية متهافتة وضحلة الأفق سابقة لعصر نهاية الأيديولوجيات الذي دخلته البشرية مع انهيار جدار برلين في أواخر القرن العشرين. لقد كان هذا الانهيار رمز لنهاية كل الأيديولوجيات مهما كانت الأسس التي تقوم عليها وبداية عصر تلتقي فيه الأفكار بحرية وبعيدا عن كل أشكال الوثوقية والانغلاق. وهي أيضا عقلية متخلفة عن الثورة ذاتها التي كانت ثورة شعب بلا إيديولوجيا توجهه. لقد جمعت الثورة كل الأفكار والرؤى التي يتشكل منها المجتمع ولم تنتصر لأي رؤية منها بل وحدتها من أجل وطن لكل فيه نصيب. فلم يكن للثورة من هم وغاية إلا تحقيق الحرية والكرامة الوطنية للجميع. إنها ثورة تحرير وطني للشعب كل الشعب. حتى أن أعدائها حررتهم أيضا ولكن حنينهم للعبودية منعهم من أن يكونوا أحرارا.

  

إذا لم تدرك النخب الثورية ما لم تدركه النخب البائسة من ضرورة التغيير فإنها ستلتحق بها في قلب هاوية النسيان

إن العالم اليوم تجاوز عصر الأيديولوجيا وإن الجيل الجديد من الشباب التونسي لا يحمل أيديولوجيا محددة بل يمتلك أفكار متنوعة المشارب. ولكن النخب التونسية المحنطة لا تزال متمسكة بأفكار ورؤى منتصف القرن العشرين وتريد دخول القرن الواحد والعشرين بأفكار عفى عليها الزمن تمتد جذورها إلى منتصف القرن العشرين وهو أمر لا يستقيم مع حركة التاريخ وصيرورة الزمن. فكان واقع الحال أن الشعب التونسي متقدم في وعيه على نخبه البالية ويتجاوزها إدراكا للعصر بسنوات ضوئية عديدة، إن هذه النخب البائسة التي تسيطر على الفضاء العام الإعلامي والسياسي أصبحت تمثل عائقا أمام تقدم البلاد التونسية وازدهارها وتحقيقها لنهضتها الاقتصادية والاجتماعية وحان الوقت للتخلص منها جميعا ورميها في مزبلة التاريخ.

  

لقد أعطى الشعب التونسي فرصة أخيرة للنخب الثورية من خلال ثورة الصندوق التي حصلت في أكتوبر 2019 علها تعيد الاعتبار لقيم الثورة وتتجاوز خلافاتها الأيديولوجية وتتحد معا من أجل مصلحة البلاد والعباد. لكنها لليوم لم تفهم تلك الرسالة وفي طريقها لأن تصبح جزء من النخبة البائسة. فما يحدث من مهاترات حول تشكيل الحكومة الجديدة والشروط التعجيزية لهذا وذاك مما قد يعطل تشكيل الحكومة وبالتالي تعطيل مصالح المواطنين ليس إلا رسالة سلبية من النخب الثورية التي وثق فيها الشعب كبديل ممكن للنخب البائسة المؤدلجة التي هزمت هزيمة نكراء في الانتخابات الأخيرة. فكأن النخب الثورة تسير في نفس طريق ذلك المصير.

 

إن سرعة تشكيل الحكومة الجديدة والتنازلات التي ستقدمها هذه القوى الثورية في اتجاه بعضها البعض هي التي ستحكم على مدى فهمها للرسالة التي أرسلها الشعب من خلال اختياراته في الانتخابات الأخيرة. وكل تعطيل لهذا التشكيل مهما كانت مبرراته لا يصب إلا في مصلحة الثورة المضادة التي زلزلت الانتخابات الأخيرة الأرض تحت أقدامها.

 

إن تونس والعالم في طريقهم لمرحلة جديدة قادمة لا محالة مهما حاولت ثقافة التفاهة والبؤس أن تقف في طريقها وإذا لم تدرك النخب الثورية ما لم تدركه النخب البائسة من ضرورة التغيير فإنها ستلتحق بها في قلب هاوية النسيان. إن الشعب بدأ صناعة تاريخه الخاص ولن تقف النخب مهما كانت بائسة أو ثورية أمام هذا التاريخ القادم. فالعالم الجديد ستصنعه الشعوب والشباب. وإذا لم يدرك الجميع أن عصر الأفكار المحنطة قد ولى وانتهى فإن جرافة التاريخ الجديد ستجرفهم جرفا نحو هاوية النسيان.

 

ننتظر أن تتحرر النخب الثورية من عماها الأيديولوجي وأن تتوحد من أجل مصلحة الوطن. فتلك إرادة الشعب. وننتظر منها أن تنتصر للوطن ولمصلحته العليا عبر التوافق والاتفاق حول حكومة الحد الأدنى الثوري وهو محاربة الفساد وإعادة بناء الاقتصاد التونسي على أسس جديدة تخلق الثروة وتعيد توزيعها بما يحقق العدالة الاجتماعية والرفاه للجميع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.