شعار قسم مدونات

حين ينجلي الانبهار الأولي.. كيف يستدام الحب بعد الزواج؟

blogs الزواج

أعتقدُ أنّ هذا العالمَ الماديّ والافتراضيّ باتَ يجعلُ الناس وخاصةً الأزواج مُشتّتين في فهمِ معنى الحب لما فرضَهُ من صُورٍ نمطيّة وحياةٍ غيرِ واقعيّة أتعبَتْ الكثيرين بضربِ المُقارنات ورفعِ سقفِ التوقُّعات، وقد ساهمَتْ وسائلُ التواصل الاجتماعيّ في نشرِ مفاهيمَ مغلوطةٍ للتعبيرِ عن الحب كحَصْرِه في أمورٍ شكليّة تتمثّل بباقاتِ وُرودٍ جذّابة وهدايا مُتقنةِ التزيين وحفلاتِ زفافٍ مُتْرَفة وصورٍ تذكاريّة عاليةِ الجودة وكأنّها أسَرَتْ الحبّ في لغةِ المظاهر والتفاخر والمنافسة السطحيّة للفتِ الأنظار ممّا تسبّب في عُزوفِ الشباب عن الزواج الذي أصبحَ مُثقِلاً لكواهِلِهم وأهليهم، وفي هدمِ الكثير من الأُسَر التي عجِزَ أربابُها عن توفير مثلِ هذه المتطلّبات الماديّة المُستنزِفة.. وقد جعلني ذلك أسائِلُ نفسي عن مفهوم الحب لديّ بعد سبعةِ أعوامٍ ونيّف من الزواج.
 
أعتقدُ أنّ المشاعرَ الإنسانيّة التي تجمعُ رَجُلاً وامرأة في إطارِ الزوجيّة أعظمُ وأجَلّ من جعلِها مُجرّدَ مسرحيّةٍ شِعريّة أو بضاعةٍ مُستهلَكة للعرض في وسائل التواصل الاجتماعي؛ فالحياةُ الزوجيّة أعمقُ بكثير من كلماتِ هيامٍ منطوقة وفُسَحٍ ترفيهيّة وهدايا ورسائلَ غراميّة والتي عادةً ما يكونُ تبادُلُها مُغدِقاً على الطرفِ الآخر في بداية الارتباط أو ما يسمّى بمرحلةِ الانبهار الأوّليّ، حيث يسعى الطرفانِ للظُّهورِ في أجمل وأبهى صورة وأروع سُلوك لجذبِ الآخر وإحكام إعجابِهِ فيُطِلُّ كلاهُما على الآخر من نافذةِ الكمالِ المُبتذَل والأحلامِ الورديّة متغافِلَيْن عن ذِكرِ عيوبِهما خشيةَ أنْ ينفِرَ الآخر أو لقلةِ الوعي والإلمام بعيوبِهما الشخصيّة بالأساس.
   

أساسَ الارتباط الجادّ يكمُنُ في الاستعداد الناضج والمُتعقّل للطرفين في تحمّل المسؤولية المنوطةِ بكلٍّ منهما في إنجاحِ هذه العلاقة، والتي تبدأُ عند الانتقال من مرحلةِ الانبهار المثاليّة إلى مرحلةِ اكتشافِ الآخَر

ورغمَ أنّه لا ضيرَ في تبادلِ هذه الهدايا والإطراءات في حدودِ الإمكانيّات الماديّة المُتاحة كوسيلةٍ للتعبير عن المحبّة وتأليفِ القُلوب، إلاّ أنّ الشائكَ في ذلك هو تصويرُ الزواج من هذه الزاوية الضيّقة فقط لتبدوَ هذه الشكليّات والقُشور وكأنّها أساس العلاقة الزوجيّة المُرتَقبة والتي يتمّ "تسويقُها" واستغلالُها في الفضاء الإلكترونيّ لإبهار المُتابعين وإجهادِ جُيوبِهم. يُفتَرض أنْ يكونَ الحبُّ أنبلُ وأرقى من أنْ تعظُمَ مكانةُ الرّجُلِ في قلبِ زوجته كُلّما زادَ رصيدُه الماليّ في حسابِه المصرِفيّ، وأسمى من أنْ تقتصرَ مُقوِّماتُه عند الرجل بمعايير جمالِ دُمىً بلاستيكية تظهرُ في ملامحِ وجهِ المرأة وحجمِ شِفاهها ومُحيطِ خَصرها كما يُصوِّرُها العالمُ الافتراضيّ.

   

لا شكّ أنّ التكافؤ الاجتماعيّ والانجذاب العاطفيّ والاستقرار الماديّ والمعيشيّ والصحيّ هي ركائزٌ مُهمّة ومِفصليّة للمضيّ قدماً في علاقةِ زواج تهدفُ للاستمراريّة والمُشاركة وإشباع الرّغبات والاحتياجات وإنشاء أُسرةٍ مُتكافلة، إلاّ أنّ فكرةَ الارتباط التي تتمحورُ حول اختيارِ الشريكيْن لبعضِهما على أساس المصلحة الماديّة أو النظرةِ الشهوانيّة البحْتة يجعلُ الزواجَ على المِحكّ عند تقلّبِ الأحوال أو وقوعِ النوازِل، فالأموالُ عُرضةٌ للخسارة والضياع والجمالُ عُرضةٌ للتبدُّد والهَرَم ولذا يبقى الحبّ الحقيقيّ في ارتقاء الأرواح وانسجام القلوب واحتمال الكُروب.
 
إنّ أساسَ الارتباط الجادّ يكمُنُ في الاستعداد الناضج والمُتعقّل للطرفين في تحمّل المسؤولية المنوطةِ بكلٍّ منهما في إنجاحِ هذه العلاقة، والتي تبدأُ عند الانتقال من مرحلةِ الانبهار المثاليّة إلى مرحلةِ اكتشافِ الآخَر وتقبّلِه على طبيعته بعُيوبِهِ ومميّزاته. إنّ الوقتَ كفيلٌ في إجلاءِ العيوب والتناقضات والتقلُّبات المزاجيّة واختلاف الطّباع وأنماط التفكير بينكما في هذه المرحلة، والتي تتمخّضُ غالباً في اصطداماتٍ وخلافاتٍ يفرِضُها الاحتكاكُ الأعمق والتجاربُ والظروف التي تمرّان بها، فما تلبِثُ علاقَتُكما إلّا أنْ تهتزَّ وتضطربَ تارّةً ثمّ تتوهّجَ وتتسّقَ أكثر تارّةً أخرى. وقد لا يكونُ هذا ما سيحدُثُ بالضرورة فقد تتعاظمُ الاختلافات وتضمحلُّ قدرةُ كلٍّ منكما على تجاوزِ أخطاء الآخَر والاعتياد على أسلوبه وطَبعِه، ولذا تكمُنُ أهميّةُ التماس العُذر والتحلّي بالحكمة والنُّضج والوعي بواجبِ كلٍّ منكما في بذلِ الجهد لاستثمار هذه العلاقة وإدراك حساسيّةِ هذه المرحلة، والتي غالباً ما تكونُ في السنواتِ القليلة الأولى من الزواج.

وهنا تبرزُ مبادئُ الإحسان وأخلاقيّاتُ التعامل مع شريكِ الحياة في صُلب المشاكل والتحدّيات التي لا تخلو منها أيّ علاقةٍ زوجيّة كالصّبر والحِلم وتجاوزِ الزلَل وثقافةِ الاعتذار والاعتراف بالخطأ دونَ التجريح أو الانتقاص من شأنِ الآخَر. وحريٌّ بكلٍّ منكما أنْ يفكّرَ مليّاً بأسباب نشوبُ مثل هذه المُشكلات لتسهيلِ تجاوُزِها وحلّها وتجنُّبها.. إنّ كلاكُما يعيشُ فعلياً في عدّةِ عوالِمَ مختلفة نوعيّاً وقد تكونُ متداخلة ومتشابكة أحياناً؛ فذاكَ العالمُ الخارجيّ الذي يشملُ مُحيطَ الأهل والأقارب والأصدقاء ودائرة العمل والذي يقتضي الواقعَ المُجتمعيّ المفروض بعاداتِهِ ونُظُمِه وتقاليده وظُروفِ الحيّزِ المكانيّ والزمانيّ والمعيشيّ لكلٍّ منها، والعالمُ الافتراضيّ الخياليّ الواسع والمفتوح، والعالم الداخليّ الذي يشملُ العلاقةَ الزوجيّة والأُسَريّة والأبناء، والعالم الفرديّ لكلٍّ منكما الذي يتمحورُ حول الذّات بمشاعرِها واعتقاداتها وأفكارِها واهتماماتها وتوجُّهاتِها.

   

الحبُّ هو أن تعلمَ أنّ كلاكُما مليءٌ بالعيوب كما المزايا.. فتقْتسِما حُلْوَ الحياةِ ومُرّها معاً.. وتحتَمِلا وتصْطَبِرا على اختلافِ الفِكْرِ والطبائع.. وتصْفحا كثيراً
الحبُّ هو أن تعلمَ أنّ كلاكُما مليءٌ بالعيوب كما المزايا.. فتقْتسِما حُلْوَ الحياةِ ومُرّها معاً.. وتحتَمِلا وتصْطَبِرا على اختلافِ الفِكْرِ والطبائع.. وتصْفحا كثيراً
   

كلُّ هذه العوالِم تتداخل في حياةِ الفرد الذي يتفاعلُ معها ويؤثرُ ويتأثّر بها ويتخبّطُ إثرَ ضغوطاتِها ومُتطلّباتِها وتقلُّباتها.. ويلتقي الزوجانِ في العالم الداخليّ الزوجيّ والأُسَريّ والذي يُمكِنِ جعلُهُ معشَرَ مودّةٍ ودفئٍ وسكينة بجُهودِ الطرفيْن، ويمكُنُ تحويلُه لبئرٍ مُظلم تُلقى فيها ضُغوطاتُ الحياة فتتراكمُ حجارةٌ من قسوة وفُتورٍ ونُفور إلى أن تفيضَ وتُغرِقَ أهلَها.. إنّ الزواجَ ميثاقٌ غليظ يقومُ على الثقة المُتبادلة والاحترام والتسامُح وحسن المُعاشرة والمُلاطفة وإبداء العطف والاهتمام، وتحمّلِ المسؤوليّات والضغوطات، والتشارُكِ في كلِّ شِدّةٍ ورخاءٍ وفرحٍ وتَرح.. إنّ الزواج تضحيةٌ متبادلة وعطاءٌ موفور ودعمٌ وتقديرٌ للآخَر واحترامٌ لمساحتهِ الخاصّة وكيانِه وشخصيّته، ولابُدّ من تقبُّلِ كلا الطرفيْن لمنطقِ الآخر وتفهُّمِ ظروفِه وعوالِمه حتى يُوجِدا نقاطَ الالتقاء لضمانِ استمراريّةٍ بنّاءة لهذا العقْدِ المَصون..
 
وما أنْ يحدُثَ التقبُّلُ والاعتياد حتى تبدأَ مرحلةُ التعايش والأُلفة التي تُضفي الاستقرار والانسجام المطلوب لديمومة العلاقة بين الزوجيْن على المدى الطويل. إنّها مرحلةُ شفافيّةٍ جوهريّة أعتقدُ أنّها الأمثل في توطيدِ أواصرِ الحبّ في العلاقةِ الزوجيّة. مرحلةٌ تجعلني أظنُّ أنّ الحبّ في أسمى أحوالِهِ هو ألّا يعتريكَ الخَجَل حينما تتجلّى عيوبُكَ أمامَ من تُحِب لأنّكَ على يقينٍ بأنّه يحبُّك رغمَ نقصِك، فإنْ كانَ اعوِجاجُكَ قابلاً للإصلاح أخذَ بيدِك كيْ تُصلِحاهُ معاً، وإنْ كانَ نقصاً لا يمكنُ تغييرُه قَبِلَك كما أنت وأكملَ نقصَكَ برحابةِ صَدرِه.

  

أظنُّ أنّ الحبّ كالإيمان.. "ما وقرَ في القلب وصدَّقَهُ العمَل".. لا يكفي أن تقولَ "أحبُّك" لنصفِكَ الآخر كي يشعرَ بأنّكَ تُحِبُّه.. بل يحتاجُ أن يلتَمِسَ ذلكَ في عيْنيكَ حين تهمِس "صباح الخير".. وحينَ تخشى عليهِ من تيّارِ هواءٍ بارد.. وحين تُعِدُّ له القهوة فيظهرُ حُبّكَ له في طعمِ ورائحةِ قهوتك.. وفي اهتمامكَ بسماعِ تفاصيلِ يومِهِ وإنْ بدَتْ اعتياديةً ومكرّرة.. وفي استثمارِكَ لهذا الرباط المُقدّس ببدئِكَ بنفسِك.. هناك حيثُ الكلمة الطيّبة والتودُّد في المُعاملة والخُلُق.. أظنُّ أنّ الحبّ يظهرُ جليّاً حين يحدثُ خِلافٌ بينكما فتخشى على مسْمَعِ من تُحب من فوْرَةِ غضبِك، فتُذكِّرُ نفسَك بإطارِ الأدبِ والمودّة كي لا تتنافرَ القلوب أو تُزَعزَع أُسسُ الارتباط.

  
أظنُّ أن الحبَّ رحمة.. بل ربّما كان الأجدرُ بنا أن نقول "تراحم" لقصورِنا البشريّ عن شموليّةِ معنى الرّحمة.. الحبُّ هو أن تعلمَ أنّ كلاكُما مليءٌ بالعيوب كما المزايا.. فتقْتسِما حُلْوَ الحياةِ ومُرّها معاً.. وتحتَمِلا وتصْطَبِرا على اختلافِ الفِكْرِ والطبائع.. وتصْفحا كثيراً.. كثيراً كثيراً.. وتُجدِّدا العهْدَ كلّ يومٍ بأنّكُما قادِران و تُريدان إكمالَ سنواتِ العمرِ المُتبقّيةِ معاً..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.