شعار قسم مدونات

قراءة في رواية "بجعات برية" الممنوعة في الصين

بجعات برية

لا أدري كيف يمكن أن تباع مثل هذه الروايات –وهي نادرة- دون إشارة من الناشر في مقدمته إلى القارئ، بأنه لا ينصح قراءة الرواية دون حبوب مضادة للصدمة والدهشة معاً. فما ذنب القارئ المسكين أن يتم القبض عليه متلبساً بنوبة قلبية. "بجعات برية"، هو الاسم الذي اختارته الكاتبة الصينية يونغ تشانغ، لملحمة روائية تستعرض تاريخ الصين في حياة ثلاثة أجيال، هم: الجدة، التي كانت شاهدة على حقبة الإقطاع في العقد الأول من القرن الماضي، والأم، التي عاصرت الاحتلال الياباني للصين، والحرب الأهلية بين الشيوعيين والكومينتانغ، والحفيدة (كاتبة الرواية) التي نشأت في أسرة شيوعية، وكانت عضواً في الحرس الأحمر الذي عاث فساداً خلال الثورة الثقافية التي اندلعت عام 1966، واستمرت عشرة أعوام. ولا أدري حقيقة، إلى أي حد يمكن أن يوائم الأدب، بين إدهاش القارئ وصعقه في آن، حين يكون هو نفسه شاهداً على مأساة تمتد فصولها بين دفتي كتاب يتجاوز ستمئة صفحة، ليلخص جحيم قرن من الزمن.

  

فترة الإقطاع

تبدأ فصول الرواية مع أفول حقبة أسرة تشينغ (آخر السلالات الإمبراطورية الحاكمة في الصين)، حيث يتم تزويج الجدّة الشابة آنذاك، لأحد جنرالات الحرب، قبل أن يموت لتواجه مصير مجهول مع زوج آخر يكبرها سناً. يبرز من خلال قصة الجدّة، كم الاضطهاد الذي كانت تتعرض له المرأة في ظل فترة الإقطاع، حيث كانت تعامل كجارية، في وقت كان فيه الزواج ترتيباً بين عائلتين، ومجرد صفقة وليس مسألة مشاعر، وربما يلخص هذه الحالة المثل الصيني القائل: "للنساء شعر طويل وذكاء قصير، فإذا كنت المرأة متزوجة من ديك فعليها أن تطيع الديك، وإذا كنت متزوجة من كلب فعليها أن تطيع الكلب".

  

صرامة الشيوعية
تسهب الكاتبة في الحديث عن الثورة الثقافية وأهوالها، وتنطلق من شعور ماو بالإغاظة عندما شعر أن خصومه أذلوه بإظهاره غير كفؤ بسبب المجاعة التي تسبب فيها

تفرد الكاتبة مساحة كبيرة في الرواية لفترة الشيوعية، بدءاً من تأسيس الحزب الشيوعي الصيني عام 1921، مروراً بالحرب الأهلية، ومن ثم القفزة الكبرى في أواخر الخمسينيات، وصولاً إلى الثورة الثقافية، وهي أحداث هامة شكلت علامات فارقة في تاريخ الصين الحديث. في ظل نظام شيوعي صارم، تتزوج الأم من قائد في الحزب، وفي غمرة سعيها لنشر قيم الاشتراكية التي آمنت بها، تجهض مرتين، بسبب انخراطها التام في العمل، حيث كان على الشيوعي أن يهب نفسه بالكامل للثورة والشعب، وأي مظهر من مظاهر الحب لأطفاله، كان ينظر إليه باستهجان على أنه دليل ولاءات موزعة. كما كان يعتبر آنذاك التعبير عن المشاعر، مظهراً من مظاهر البورجوازية.

  

القفزة الكبرى

في أعقاب تأسيس جمهورية الصين الشعبية، تولد الحفيدة في بيت يقدس مبادئ الشيوعية وتعاليم الزعيم الراحل ماوتسي تونغ، لذلك لم تحظ برعاية كافية، فترعرعت في كنف جدتها، حيث كان أبواها مشغولين بنشر أفكار ماو، فيما يتعلق بالقفزة الكبرى التي تهدف إلى تحويل المجتمع الصيني من الزاعة إلى الصناعة في وقت قياسي. سُحب لهذا الغرض حوالي 100 مليون فلاح من الحقول إلى إنتاج الفولاذ، فعريت الجبال من الأشجار لاستخدامها وقوداً، وتوقف الإنتاج الزراعي تماماً، ما أدى إلى أزمة غذاء سرعان ما تحولت إلى مجاعة في عموم البلاد، وحسب تقديرات غير رسمية، فإن عدد من ماتوا خلال تلك الفترة (1958 إلى 1961)، يبلغ حوالي ثلاثين مليوناً.

  

الثورة الثقافية

تسهب الكاتبة في الحديث عن الثورة الثقافية وأهوالها، وتنطلق من شعور ماو بالإغاظة عندما شعر أن خصومه أذلوه بإظهاره غير كفؤ بسبب المجاعة التي تسبب فيها. فكان عليه أن ينتقم، كان يحتاج إلى زيادة سلطته، وإقامة ولاء وطاعة مطلقين له وحده، ولتحقيق ذلك كان يحتاج إلى فوضى عارمة تسد الطريق أمام أي اعتبار، فلجأ في إشعال الثورة، إلى شبان صغار تربوا على طاعته. فنزل الحرس الأحمر في سائر البلاد، منفسين عن نزعتهم التخريبية، دهموا البيوت، وحطموا التحف، ومزقوا اللوحات الفنية، وأحرقوا الكتب، فانتحر العديد من الكتاب بعد ضربهم وإهانتهم وإجبارهم على رؤية أعمالهم تحال إلى رماد. فكانت النتيجة أن فقدت الصين جل تراثها المكتوب، والكثير من معالمها الثقافية والتاريخية.

 

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل طال حتى القادة الشيوعيين، ومن بينهم والد الكاتبة، وفيما بعد أمها، إذ تحولا إلى مجرمين محسوبين على اليمين الرأسمالي، وذلك في إطار تصفية حسابات حزبية غير مبررة، حيث كانت البلاد تحكم بدكتاتورية تعمل على إبقاء الشعب جاهلاً، لضمان إذعانه، إلى حد كان يتنافس فيه الشيوعيون على من يملك أكبر عدد من الحشرات الثورية (القمل) في شعره، حيث كانت النظافة تعتبر مؤشراً على البورجوازية. عن تلك الفترة تقول الكاتبة: “مثل كل الصينيين كنت عاجزة في تلك الأيام عن التفكير العقلاني، كنا مطوعين ومشوهين بالخوف والتلقين، بحيث لا يمكن تصور الخروج عن الطريق الذي رسمه ماو”.

     

رواية بجعات برية (مواقع التواصل)
رواية بجعات برية (مواقع التواصل)

    

الهروب إلى المنفى

أدركت الحفيدة فيما بعد، أن المغزى الحقيق للثورة الثقافية، هو عملية تطهير دموية لتعزيز سلطة ماو الشخصية. كان ذلك في أعقاب المصائب التي حلت بأسرتها. حول هذا الأمر تقول يونغ تشانغ: “بدات أدرك أن ماو هو المسؤول الحقيق عن الثورة الثقافية، ولكني مع ذلك لم أحكم عليه صراحة بالإدانة ولا حتى في ذهني، كان من الصعب جداً تدمير إله، ولكني كنت ناضجة نفسياً للكفر به”.
 
بعد أن توفي والدها بسبب تكرار اعتقاله وتعنيفه، بدأت يونغ، تستحضر كلامه عن الموت والحزب والثورة الثقافية: “تأمين الثورة الثقافية بمثل هذا الثمن على البلاد والشعب، لا بد أن يكون خطأ، في الواقع أعتقد أنه جريمة”.، “إني لا أفهم الثورة الثقافية، ولكني واثق أن ما يحدث خطأ فادح، هذه الثورة لا يمكن أن تبرر بأية مبادئ ماركسية أو شيوعية”. “الموت. لا أعتقد أني أخافه. فحياتي كما هي عليه الآن أسوأ منه”. 
 
كما تتذكر قوله لها قبل أيام من وفاته: “إذا مت هكذا، لا تؤمني بالحزب الشيوعي، بعد الآن”. ربما كان ذلك الدافع الأقوى بالنسبة لها، للسفر إلى الخارج، ضمن بعثة دراسية إلى بريطانيا عام 1978، قبل أن تتفرغ لكتابة هذه الرواية، التي ما كان يمكن أن تكتبها لو استقرت في الصين. فيما يمكن أخذه كاجتراح لتلخيص أو اختزال حجم المأساة ، أنقل تساؤلاً للكاتبة ورد في أحد فصول الرواية:

   
“كان يقال لي دائماً، وكنت أصدق، إنني أعيش في فردوس على الأرض، في الصين الإشتراكية، في حين أن الرأسمالية جحيم. والآن سألت نفسي إذا كانت هذه هي الجنة فكيف يكون الجحيم”.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.