شعار قسم مدونات

قوية الجسد والشخصية.. أمي قبل أن يقعدها المرض

blogs سري سمور

انتابني تردد قوي قبل الكتابة عن إنسان غال عزيز أي أمي، وهي تعيش بلاء عظيما وكربا كبيرا؛ ولكنها تجربة قلت لا بأس من الكتابة عنها/حولها لا سيما أنني أردد دوما أن ما جرى لأمي بعد مرضها مدرسة كاملة لي بل لربما أكثر، فالإنسان في مراحل حياته يمر بأشياء ومواقف، يأخذ منها العظات والعبر، وما جرى لأمي كان عبرا مضاعفة ودروسا مكثفة ومركزة، وجعلني في حالة مختلفة تماما عما قبله على صعيد نظرتي إلى نفسي وإلى من حولي وإلى كل ما في هذه الحياة الدنيا.

  

أمي كانت قوية؛ جسديا، وشخصيتها لا تقل قوة عن قوة جسدها…أتذكرها وهي تحمل (جرة/أنبوبة البوتوغاز) على رأسها من البيت إلى مكان استبدالها والعودة بها مليئة، وهي مسافة طويلة دون أن تستريح إلا مرة أو مرتين لثوان معدودة، لقد أصبحت أرملة وهي في الثلاثين تقريبا وتحملت عبء تربية ابن وحيد وابنتين اثنتين في ظروف قاسية وصعبة من كافة النواحي…أعلم أنها ليست أول ولا آخر امرأة تواجه ظروفا كهذه وربما أصعب، ولكل امرئ تجربته الخاصة.

 

لقد تعلقت تعلقا لا أتردد بوصفه بالمرضي ببيتها الذي بنته في المخيم على مراحل، والذي كان حينما ابتاعته يحوي فقط غرفة صغيرة من الطين، هدمتها واستعانت بمن استطاعت من العمال لبناء غرفتين، تبعتها إضافات أخرى عبر سنوات اتسمت بالعشوائية، ولكنها عشقت هذا البيت وكانت تراه خيرا من قصر منيف، وزرعت في (حاكورة) البيت ما تيسر من أشجار ومزروعات أخرى بارك الله في ثمارها حتى الآن إضافة إلى الأزهار والورود ونباتات الزينة، لقد عملت مع عمال البناء في البيت بكل نشاط؛ فكانت تقوم بالحفر في الصخور بالمعنى الحقيقي لا المجازي بأدوات حفر يدوية بسيطة، فاخشوشن كفيها، وكنا نمازحها بأن كفيك مثل أكف العمال! وظلت ذريتها وبيتها هي كل حياتها، فلا تطيق فراقهم أو البعد عنهم، ولا تستوعب أي أذى يلحق بهم من أي كان، ولا تقبل أن يمسهم أي ضرر ولو بسيط، ولطالما قاتلت بضراوة من أجل هذه (الممتلكات).

 

وحضور أمي في حياتي بالذات كان طاغيا وواسعا وشاملا، وقد سبب لي في بعض الأحيان سخرية ممن ربما لا يستوعبون هذا التعلّق الشديد، لأنهم يقيسون على أنفسهم لا على وضعها ونفسها…كنت بالنسبة إليها (عنوان التحدي) في الحياة، كانت تشعر بالخوف والقلق من أمثلة تسمعها عن أولاد كبروا فكان منهم العقوق والجحود، وكانت بعض الأمثلة تضرب في حضرتها لتثبيطها ومنعها من مواصلة التحدي، أو ما تراه تحديا، وكانت أمي تختار لي ملابسي وأحذيتي؛ وحرصت على أن أكون أفضل هنداما من أقران لهم آباء، وهذا ربما جلب غيرة الأطفال المعروفة وتداعياتها التي أثقلت عليّ وعليها.

  

undefined 

    

ولم تستوعب أو لم تتقبل أمي فكرة أنني كبرت وتجاوزت مرحلة اختيارها لملابسي، وأن ذوقها في اللباس لا يناسبني؛ ولم أسلم من تعليقات ممزوجة بالسخرية السمجة، حين لبست (جاكيت) شتوي اشترته لي لونه غير مناسب إطلاقا لسني، وفشلت في استبداله، لأنه المتجر لا يتوفر فيه غيره على مقاسي، والبضاعة تستبدل ولا ترد…وكررت أمي وضعي أمام الأمر الواقع عندما ابتاعت قطعة قماش وذهبت بها إلى الخياط ودفعت له (عربون) وطلبت مني الذهاب إليه لتفصيل بنطال.. وكلا الحادثتين وأنا أقترب من الثلاثين، وكانت في طفولتي ترافقني إلى الحلاق وتعطيه تعليمات قص شعري، ولما تنازلت عن (هذا الحق) وصرت أحلق شعري عند الحلاق دون مرافقتها، ظلت حتى قبيل مرضها تنتقد طريقة حلاقة شعري وتعتبر أن الحلاق (شوّه) منظري!

 

أما هوايتي في ملاعبة القطط فكانت في طفولتي حتى بداية شبابي تستفزها وتغضبها لأنها تراها انتقاصا للرجولة فهي أرادت أن أكبر بسرعة، ولم تستوعب أي لعبة من ألعاب الأطفال التي لعبتها، لذات السبب.. أنت رجل! ولم يسلم أحد من تعليقات أمي الساخرة، حتى من يظهرون على الشاشة الصغيرة، فلكل لقب تبتكره في لمح البصر، وكان من ينال شيئا من إعجابي له حظ وافر من سخريتها وتعليقاتها اللاذعة، ولقد فشلت أمي في فرض (معتقداتها السياسية) عليّ وهذا جعلها في حالة توتر وغضب دائمين، ولكن اهتماماتها السياسية خاصة سماع الأخبار من المذياع جعلتني ألتهم السياسة منذ مرحلة الروضة، وأمي قبل أن تصبح من أهالي المخيم ابنة قرية صغيرة نائية ومحافظة، وقد منعها أهلها من الدراسة في المدارس لأنها كانت مختلطة وقتها، ومع ذلك كان هناك من يسألها ويسألني:هل وصلت إلى الثانوية العامة؟ذلك أنها تعلمت ذاتيا في بيت أبيها، وكانت تدون مذكراتها في المفكرات السنوية.

 

كانت ترى ألا أخوض تجربة المقاومة ضد الاحتلال إلا في حالة واحدة: أن يتقدم الصفوف أبناء العوائل الأرستقراطية… وربما هي في هذا الرأي شاطرت أمهات كثيرات في مجتمعنا… وكانت تردف هذا الشرط، بأمر آخر وهو أنني وحيدها، والوحيد معفى حتى من الخدمة العسكرية في كل الدول! ولما قامت انتفاضة الحجارة كنت في بداية الشباب الأول (حوالي 15 عاما) فكانت تريد حبسي ومنعي حتى من التفرج على ما يجري خوفا من أن أصاب أو استشهد أو أعتقل؛ وكان هذا يسبب لي الحرج من سخرية وتعليقات في تلك الأجواء، وكان تمردي آنذاك يتناسب طرديا مع بكائها وغضبها.  

  

وظلت أمي وفية وفاء شديدا لذكرى أبي-رحمه الله- الذي لم تعش معه سوى بضع سنين، فلبست الأسود من المنديل إلى الجوربين سنوات طوال ولما تخلت عنه لبست (الغوامق) وظل الحداد والحزن سمتها الدائم، وكانت تعلق ملابس أبي على جدار الغرفة الكبيرة في البيت، حتى اقتحم جنود الاحتلال يوما بيتنا وسألوها عن صاحب هذه الملابس ولم يصدقوا بأنه مات… حتى علب سجائر له تعفنت وهي تحتفظ بها، إضافة إلى أشياء أخرى مثل ساعته وكتبه ومسبحته ويومياته المدونة، التي استفدت منها كثيرا وعرفت أبي والمجتمع من خلالها، حتى الآن لا يصدق كثيرون أن الدلال والرعاية المكثفة والخوف الشديد من أن أشاك بشوكة لا يعني أنها لم تكن تضربني بشدة أحيانا، مستخدمة يديها أو ما تجده من (أدوات) حينما تغضب وترى أنني ارتكبت ذنبا كبيرا.

  

كان طموح أمي كبيرا ولكنه مرتبط بي وبتقدمي في الحياة…أمي رأت أن التعليم هو أهم شيء وأقوى سلاح، ولم تؤمن بحرفة ولا تجارة، ولقنتني ذلك، بل و(طبعتني) عليه بما لها من سيطرة طاغية…كانت تمتلك من العناد ما يمكن تشبيهه بجلمود صخر، ومن الأنفة والكبرياء ما يدهش كل من يعرفها، ومن الحنان والعاطفة وغزارة الدمع ما يثير غضبي…أمي كانت عنوان الإسراف في العواطف بلا منازع في كل من عرفت في حياتي.

  

ورغم الفقر والحاجة رفضت أن تعمل عند أي كان، ودافعها كبرياء وضرورة أن ينظر إليها بندية لا تشوبها شائبة، ولكنها قبلت أن تعمل في خياطة القماش والصوف في البيت، لتوفر بعض المال، إنها حياة طويلة ومواقف كثيرة، ولا يمكن سردها كلها، ولكن هذه لمحات عامة سريعة حولها…ثم ماذا؟ فجأة وبلا مقدمات تذكر، يهجم عليها (الزهايمر) فينقلب حالها وحالي، ولا أصدق أن من كانت ترفض بكبرياء عنيد أن أمسك بيدها لمساعدتها في المشي، تعجز عن كل شيء ولو بسيط وتصبح طريحة الفراش ولا تعرف شيئا ولا تدرك ما حولها.. ولا حول ولا قوة إلا بالله. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.