شعار قسم مدونات

التغير الاجتماعي.. حقيقة موضوعية أم تغيير مُؤسس له؟

blogs مجتمع

لا يختلف كل دارس ومهتم بقضايا المجتمع على أن هناك تغير اجتماعي ديناميكي يمس بنية مجتمعات العالم بصفة عامة والمجتمعات العربية الإسلامية على وجه الخصوص الأمر الذي يقتضي دراسة وفهم عميق للموضوع لما يكتسيه من أهمية تقترن بنمط العيش السليم في ضل ما أفرزه هذا التغير من زحزحة للبنى الثقافية والاجتماعية والاقتصادية مما أدى إلى بزوغ نمط عيش لا توافقي خصوصاً في مجتمعاتنا العربية الإسلامية التي تتأسس روافد الدين والثقافة والقيم.

لكن مع هذا التغير لم تعد هذه الروافد بتلك الوجاهة في التنيظم وتدبير حياة الفرد العربي بل أصبحنا أمام فاعلين جدد يقومون بهذه المهمة الأمر الذي يدفعنا لطرح ثلة من الأسئلة ما هو التغير الاجتماعي؟ وكيف يحدث هذا التغير وكيف يؤثر على الهوية؟ هل نقبل ما يحدث من تغير في البنى الحياتية على أنه إفراز موضوعي للتطور ونتكيف معه؟ أم أن الأمر ليس بالبراءة الكاملة ويقتضي منا معرفة مرمى هذا التغير في مجتمعاتنا العربية الإسلامية؟

يُعرف التغير الاجتماعي في أدبيات علم الاجتماع والأنثروبولوجية الثقافية على أنه كل تغيير يقع في بنية من بنيات المجتمع ويسمح بظهور أنماط حياتية جديدة مختلفة على ما كان سابق بحيث يكون هذا التغير متجلي ويمكن ملاحظته أي واقع معاش. كما يعتبر التغير الاجتماعي من الإفرازات الموضوعية لسيرورة التاريخ أي أنه نتاج سنة التطور الذي تعيشه البشرية ولعل هذا ما تقدم به الأنثروبولوجي هنري مورجان في وصفه لدرجات الحضارة وفق نسق تطوري لكن هذا من وجهة نظر التطورية الأنثروبولوجية بينما نجد أطروحات أخرى تفسر عملية التغير الاجتماعي كتفسير الاتجاه الانتشاري في الأنثروبولوجية الثقافية حيث يقول فرانس بواش في هذا الصدد أن الاحتكاك الثقافي يسهم في عملية التغير الاجتماعي حيث أن هناك مراكز قائمة بذاتها لنشر الثقافة هذا الطرح المهم يقتضي طرح تساؤلات عدة ولعل أبرزها هل التغير الاجتماعي يكون دائماً إفراز موضوعي للتاريخ وللتطور؟

لتغير الاجتماعي مفهوم استخدم من أجل إعطاء غطاء شرعي لإتلاف الهوية العربية الإسلامية فبعد إقتناع فئة عريضة من "مثقفي ونخب الأمة" في مرحلة ما بعد الاستقلال بأن مسألة التغير الاجتماعي أمر موضوعي

يتضح الجواب من خلال طرح فرانس بواش أي أن التغير الاجتماعي ليس دائماً إفراز موضوعي "غير متدخل فيه" بل هناك أطراف فاعلة فيه ولعل ما يحدث في مجتمعاتنا العربية الإسلامية يحتمل ما سبق، ذلك أن ما نعيشه من تغير في نمط عيشنا فهو من جانب نتاج لطبيعة التاريخ التطورية ومن جانب آخر فهو محدث ومؤسس له في ظل قوة الأقطاب العولمية التي تعمل على إخضاع البشرية لثقافة واحدة وفق آليات تيسر هذه العملية ولعل أبرزها الوسائل التكنولوجية والإعلام محدثة إنزياح هوياتي وهذا ما يمكن ملاحظته وبشكل جلي من خلال نمط عيش الفرد في مختلف المناطق العربية فهو لا ينم على ما يقترن بالهوية العربية الإسلامية في مجموعة من الأمور.

إذن هناك تغير اجتماعي واقع في البنية الحياتية أفرز ثلة من المفارقات الحياتية نلمسها في حياتنا ولعل أبرزها وأخطرها عدم التوافق بين البنية العقلية العربية الإسلامية وما تم تمريره من مفاهيم وأنماط ومثيرات أحدثت شرخ نفسي واجتماعي وسياسي.. في مجتمعاتنا العربية. يبدو من ما سبق أن التغير الاجتماعي نتاج للعملية التطورية التاريخية من ناحية ولتدخل الأخر المختلف من جهة أخرى من خلال نشر الثقافة والنماذج.. ولعل هذا ما يحدث في مجتمعاتنا العربية الإسلامية منذ مدة يمكن بدؤها من إتفاقية سايس بيكو التي كانت اللبنة الأولى لتفكيك المجتمعات العربية بعدها إتجهت القوى الغربية العولمية إلى الإستعمار المباشر بعد هذه المرحلة واستقلال البلدان العربية الإسلامية ذهب الأخر المختلف (القوى الغربية) إلى ما هو أخطر من الاستعمار المباشر ألا وهو ضرب مرتكزات الهوية العربية الإسلامية اللغة والمرجع الديني الإسلامي المنظم لحياة الأفراد وما يتضمنه من تعاليم ونماذج تجعل الفرد دائماً تحت سند وتحفزه في حاضره ومستقبله ولعل هذا ما دفع الأخر المختلف إلى إتلاف الهوية وعي منه برشادة النموذج الإسلامي في المنطقة العربية التي تشكل له منطقة الثروات والخطر في نفس الوقت.

بعد التأسيس للدولة الحديثة المبنية على الديمقراطية والعقلانية التدبيرية في الدول الغربية وتمرير هذا النموذج للبلدان العربية في إطار مواكبة "التغير الاجتماعي" دون مراعاة البنية الاجتماعية والحياتية لمجتمعاتنا لم تبنى إلى يومنا هذا الدولة الحديثة في غالبية البلدان العربية كما أنه لم نحافظ على النمط التدبيري المميز لمجتمعاتنا العربية ولعل هذا ما كان يطمح له الأخر المختلف أي وضع الأمة العربية الإسلامية في شكل غير متضح المعالم لا يخضع لمعايير مرجعية محددة ويمكن ملاحظة هذا وبشكل واضح من خلال:

– الوضع السياسي في مجموعة من الدول العربية المقترن بالتسلط وتدني المردودية السياسية.
– الوضع الاجتماعي الغير متزن.
– بروز مطالب غريبة لا تتوافق وطبيعة العقل تنهل من "الحرية المبنية على المطلق في الفعل".
– نقاش الدين في وسائل الإعلام.
– التغير الكبير في نمط العيش المقترن بالثقافة الغربية.

يُستخلص من ما سبق أن التغير الاجتماعي مفهوم استخدم من أجل إعطاء غطاء شرعي لإتلاف الهوية العربية الإسلامية فبعد إقتناع فئة عريضة من "مثقفي ونخب الأمة" في مرحلة ما بعد الاستقلال بأن مسألة التغير الاجتماعي أمر موضوعي وسنة تاريخية بدأت عملية نشر ثقافات وقيم وأنماط حياتية تنبني على التحرر السلبي، بالإضافة إلى ضرب كل ما له صلة بالماضي وربطه بالرجعية والتخلف وأيضاً تجاوز المعتقد والإيمان فقط بالمادي.. بعد هذه العملية التي وقعت ولا زالت تقع بشكل ضمني وأحيانا بشكل واضح تمت إصابة العمود الفقري للأمة "الهوية" الأمر الذي أفرز وضع اجتماعي وثقافي وسياسي موسوم باللاتوافق والإرتجالية والعبث.

صفوة القول نحن بحاجة ماسة للوعي بمخططات الأخر المختلف من جهة ومعرفة المفاهيم في سياقها العلمي والحذر من التوظيف الغير السليم لها من جهة أخرى، وفي سياق الموضوع الذي تطرقنا له عدم القبول بأي شيء يرمي لزحزحة الهوية تحت ذريعة التغير الاجتماعي ذلك أنه أي التغير الاجتماعي لا يعني غزو المجتمعات بثقافات وصيغ حياتية محددة وبشكل مخطط له، بل التغير الاجتماعي لا بعدو أن يكون سوى نظرية علمية تهدف إلى تشخيص حالة التغير في المجتمعات ومعرفة العوامل التي تساهم في ذالك لا علاقة لها بالغزو المؤسس من طرف القوى العولمية التي ترمي إلى إخضاع البشرية جمعاء لتاريخية واحدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.