شعار قسم مدونات

الانتفاضة اللبنانية.. نظرة واقعية نقدية لشعار "شيعة شيعة"!

blogs لبنان

أوجدت الانتفاضة الشعبية اللبنانية من حيث لا تدري أو لا تدري خطابا طبقيا موغلا في الإقصاء. لنكن صريحين مع أنفسنا وواقعنا، شريحة واسعة من اللبنانيين لا ترى في الحراك سوى منبرا لخريجي الجامعات النخبوية غربية المنبت والمسالك والمناهج العلمية (كالجامعة الأميركية في بيروت) وفريق فاعل مؤثر من شخوص المجتمع المدني والفني والإعلامي التي يستحيل علينا أن نصدق أنها تعاني من جوع أو فقر أو عوز! زد على ذلك أنه من المعلوم لدى قسم من علماء الاجتماع -تحديدا أصحاب المناظير البنيوية في حقول التنظير الاجتماعي على اختلافها- أن الواقع الطبقي في سياقه الاجتماعي قد يأخذ لبوسا إيديولوجيا (في لبنان، لبوسا ما -قبل- مدنيا، طائفيا).

من هنا قد -أقول قد للتقليل لا للتوكيد- يتسنى لنا أن نفهم مديات التعبير عن الاحتقان الطبقي لا الطائفي التي يختزنها شعار "شيعة شيعة" الذي دوى مؤخرا في مواكب حزبية سيارة جالت في العاصمة بيروت ومناطق أخرى. من هذا المنطلق، أرى أنه لا حرج على الحراكيين المنتفضين في الشوارع منذ ما يزيد على أربعين يوما أن يبادروا إلى طرح سؤال: هل أنتج الحراك عن غير قصد خطابا/نسقا سلبي المبنى والنتائج؟ وما هي السبل المتوفرة لمعاينة الواقع وتصحيح المسار إن لزم؟

الواقع المجتمعي في أي سياق مكزماني يتشكل عبر أفعال الأفراد الذهنية واللفظية والجسدية التي تتكدس وتعتمل لتكسب هذا الواقع مع مرور الوقت استقلالية تفصله عنهم. بكلمات أخرى، لا جدال في أن الأفراد هم من يشكلون واقعهم المجتمعي

ليس باستطاعتي هنا تقديم أجوبة وافية على هذه الأسئلة المهمة. ولكنني أرى أنه من لا بد من اعتبار طرحها من أوجب الواجبات في هذه المرحلة السياسية والاقتصادية الخطيرة في لبنان، ليس بهدف إطلاق العنان لطاقاتنا التنظيرية بشكل يفصلنا عن عيش واقع الانتفاضة واستكمال مسيرتها والعمل على بلورة شرعيتها وميثاقيتها أكثر إنما بهدف التأكيد على أهمية تفكيك الظواهر السلوكية الاحتجاجية (لفظية وغير لفظية) التي تطرأ على الإنتفاضة بين حين وآخر وتدعونا لإجراء مراجعات (وأحيانا تراجعات) ذاتية وجمعية لا غنى عنها لتوخي الوضوح في الطرح والعمل معا.

أعود إذا إلى شعار "شيعة شيعة"، مساهمتي ستقتصر على تقديم محاولة فهم سوسيولوجية للشعار قد تشكل إطارا عاما نظريا يسمح للآخرين من باحثين وناشطين لبنانيين وعرب مهتمين بشؤون الانتفاضة وتداعياتها باجتراح محاولات فهم مماثلة والعمل على ترجمتها إلى خطابات/أنساق تراجع ممارسات سابقة أو تعدل وتصحح لضمان نجاعة واستمرارية ممارسات حالية أو لاحقة. أما الأداة التفكيرية الرئيسية التي سأنتدبها لهذه المهمة فهي أفهومة الأنطولوجيا الإجتماعية المجزأة التي قدم لها فيلسوف الواقعية النقدية البريطاني روي باسكير في كتابه الأثير (The Possibility of Naturalism (1979.

يرى باسكير (١٩٧٩) أن الواقع المجتمعي في أي سياق مكزماني يتشكل عبر أفعال الأفراد الذهنية واللفظية والجسدية التي تتكدس وتعتمل لتكسب هذا الواقع مع مرور الوقت استقلالية تفصله عنهم. بكلمات أخرى، لا جدال في أن الأفراد هم من يشكلون واقعهم المجتمعي ولكن للواقع هذا، كما يقول باسكير، "صفة إعلانية": أي أنه يستقل وينضج ليعلن نفسه سيدا مستقلا عنهم وسابقا عليهم من حيث تقريره للبنى المتحكمة بحيواتهم وشروط الإستمرارية أو التبدل النسبي فيها. من هنا تمييز باسكير بين القدرات الفعلية للبشر وبين الخواص التقريرية المستقلة للبنى المشكلة والقائدة لثنائية الثابت والمتحول التي تسم المجتمعات البشرية على اختلافها وترسم الخطوط العريضة لحاضرها (الممتد من، لا المنقطع عن، ماضيها) ومستقبلها.

تجيز هذه الثنائية الديالكتيكية التحليلية بين البنية الاجتماعية من جهة والفعل البشري الفاعل من جهة أخرى، تجيز لباسكير استحداث معاينة أنطولوجية تجزيئية تقسم الواقع إلى ثلاثة مستويات أساسية: أولا، المستوى الإمبيريقي وهو مستوى تشكل الظواهر/الحوادث مرئيا. يسمح هذا المستوى التحليلي للباحث بلحظ الظاهرة ثم توثيقها وتفصيلها عبر التوصيف المكثف لمختلف جوانب تمظهرها؛ ثانيا، المستوى التحققي غير المرئي وهو مستوى تشكل الأنماط البنيوية العلائقية التي تطبع الظواهر/الحوادث وتكون باكورة المسببات المباشرة لها (أي بالشكل الذي تصدر به للعيان على المستوى الإمبيريقي)؛ ثالثا وأخيرا، المستوى الحقيقي غير المرئي وهو مستوى القوى العميقة أو الماكينات المشغلة للأنماط البنيوية العلائقية التي تكون المسببات غير المباشرة (وبالتالي الحقيقية) للظواهر/الحوادث. لكل مستوى من هذه المستويات الثلاثة خصائصه النظرية والأدواث والطرائق البحثية (لجمع الأدلة وتحليلها) التي يمكن استخدامها ضمن منهاجية واقعية نقدية لتعيين وتوصيف وشرح أية ظاهرة/حادثة.

لن أخوض هنا في أساليب طرح الإشكالية والأدوات التحليلية والطرائق البحثية التي أعتقد أنها تتناسب من منظور واقعي-نقدي مع بحث جاد يهدف إلى توصيف وشرح الظاهرة مدار البحث وهي شعار "شيعة شيعة"، إنما سأكتفي بتقديم ثلاث استشعارات شرحية يمكن لنا من خلالها أن نتبين ماهية ومسببات هذه الظاهرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.