شعار قسم مدونات

مسرحية وتمثيلية.. وصناعة مخابراتية!

BLOGS مواقع التواصل

كانت صواريخ الغزاة المحتلين تدكّ بيروت المحاصرة بلا هوادة على مرأى من العالم في صيف 1982، لكنّ سائق سيارة الأجرة التي أقلّتنا وقتها في بلد عربي آخر استغلّ الرحلة الطويلة تحت الشمس في غسيل أدمغتنا، أو لعلّه حاول استنطاقنا لسبب ما. سألنا عن رأينا في مضامين الأخبار المأساوية، ثم أكّد بأن الحرب غير قائمة في الواقع، وبدا واثقاً من قوله بأنّ لبنان "هادئ تماماً"، وقال لأحد الذين باحوا بشكّهم في فرضية المسرحية المحبوكة.. "هل رأيت ما يجري في بيروت بأم عينك حقاً؟". يستنتج المرء بعد عقود لاحقة أنّ حروب المنطقة المتعاقبة لم تَنْجُ من الحكم ذاته تقريباً بصيغ شتى؛ من سائقين غاضبين أو حلاّقين منفعلين أو جلساء المقاهي؛ ومن جوقة "الخبراء" والمعلقين الذين يظهرون في الشاشات بنظّاراتهم وأقلامهم أو يدفعون بأحكامهم الفضفاضة في الفضاء الشبكي.

 

ليس خافياً ما شاع في الواقع العربي، كما في بيئات أخرى، من إطلاق أحكامٍ سابغة بلا ضبْط واستنتاجاتٍ قطعية بلا قيْد تزعم التّحليل والتّأويل، تحت صيَغ من قبيل: "تمثيلية"، "مسرحية"، "صناعة مخابراتية"، ونحوها، في تفسير أحداث وتطورات ومواقف شتى. وإن شاع هذا في أوساط الجماهير؛ فإنّ بعض النخب المرموقة في الشاشات والشبكات والمنصّات تأتي بكثير من هذا أيضاً؛ علاوة على ما تستحضره خطاباتٌ رسمية وغير رسمية لأغراض دعائية ابتغاء تبرير مواقفها ووَصم مخالفيها.

 

من عادة هذه الأحكام الفضفاضة، التي تبلغ حدّ الهوس في بعض مواسم الجدل عبر الشاشات والشبكات والمنصّات، أن تنتهي أطرافُ خيوطها بنقاط معلوماتية ميّتة؛ إنْ كانت الخيوط متاحة أساساً، فتبقى روايات كهذه فرضيّاتٍ أو تصوّرات لا يصحّ الأخذ بها على أنها حقائق أو معطيات؛ مهما راقت سرديّاتها للوجدان الجمعي. وإن أقرّ القوْم بأنّ الواحدة منها لم تَثبُت؛ فإنها تحتمل بالتالي – إن لم تُفنّد – صحّةً ما دون برهان عليها؛ بما يعني احتمالها الخطأ أو الخطيئة جزئيّاً؛ أو الزلل والشطط كلياً؛ وهذا كفيل بأن يُسقطها في الواقع، وإن بقيت في بعض السياقات احتمالاتٍ قابلة للفحص أو "الاستئناس بها!" ما لم تُنقَض وتتهاوَ.

 

أدوار وظيفية لأحكام جاهزة
من المعضلات التي تجرّها هذه الأحكام أنّ استسهال الأخذ بها في حالة معيّنة سيفرض أسئلة حرجة عن مبرٍّر إغفالها في حالات نظيرة أو مشابهة. ثم إنّ الرضوخ لمنطقها كفيل بأن يُنشئ وَعياً يألف الجموح بأحكامه

ليس نادراً أن يُؤتَى بفرضية "الصناعة المخابراتية" أو "الحبكة المسرحية" بصفة متسرِّعة وجاهزة لتأويل كل غموض وتسويغ تناقض ما أو لردم فجوة تحليلية أو لضمان انسجام منشود في سردية ما. وقد تُوَظّف هذه المقولات لدرء رواية محدّدة تُخشى عواقبها أو لا تُحتمل تبعاتها، وقد يخدم هذا المسعى تبرير الإخفاقات وتسويغ الإحساس الذاتي بالعجز عن التصرّف مع موقف معيّن، وفي بعض هذا ترضيةٌ للذات وتسلية للنفس للتعايش مع الصّدمات واحتمال الضغوط.

 

يُقال أحياناً عن حدث معيّن إنه "مسرحية" لمجرّد أنّه لا يبدو متواطئاً مع تأويلات شائعة في وسط ما. لكنّ المعضلة أنّ فرضية "المسرحية" أو "الصناعة المحبوكة" ذاتها في بعض هذه المداولات يُدفَع بها بلا إثباتات ناجزة أو مُعزِّزات جازمة، ومن الواضح أنها كثيراً ما تكون خياراً انتقائياً يَستبعِد من التناول احتمالاتٍ أخرى قد تكون واردة أيضاً وإن بدت راجحة. ثمّ إنّ فكرة "المسرحية" و"المؤامرة" و"الصناعة المقصودة" تروق للقاعدين عن مسؤوليّات والعاجزين عن أدوار؛ فهي تعفيهم من الإحساس بتقصيرهم أو تدفع عنهم المساءلة؛ فالواقع عندهم محكوم بالكامل من قوى مهيمنة والمشهد لديهم ممسوك بإحكام من آخرين. لا يقضي التحذير من ذلك باستسهال الانزلاق إلى موقف عكسي متطرِّف ينفي الهيمنة الخارجية المشهودة أو يُنكر اشتغال الأحابيل في الواقع.

 

ويشهد الزمن الشبكي مواسم جدل متلاحقة تغترف من هذا المنطق، فتتسلّى بها شعوبٌ مقهورة وتنشغل معها النخب بحكايات جانبية؛ بدل مواجهة واقع الانكسارات والانهيارات الماثلة من بين أيديها ومن خلفها، وقد يتيح ذلك إلقاء المسؤولية واللوْم على آخرين أيضاً. إنّ إطلاق الأحكام التأويلية السابغة بمقولات "المسرحية" أو "التمثيلية" ونحوها مؤهّل لتفسير كلِّ ما يستغلق على الأفهام أو يفتقر إلى المعلومات؛ بما يتطلّب تفقُّد وعي النُّخَب – قبل الجماهير – إنْ استساغت هذا المنطق في تفاعلها مع الأحداث الداهمة ومواكبتها تطوّرات متلاطمة مِن حولها.

 

جدير بالنظر أنّ لأحكام كهذه أدواراً وظيفية متعدِّدة في سياقاتها، فقد تُضفي هالة العلم والدراية على القائلين بها عبر ما يأتون به من تفسيرات سهلة لوقائع معقّدة، أو قد تساعدهم على تسويغ تناقض وقائع وشواهد معيّنة مع سرديات تعسفية نسجوها ابتداءً؛ بما يجعل التناقض الظاهر منسجماً مع مزاعمهم بمجرد اعتبار الوقائع والشواهد المتناقضة حيلة محبوكة للتضليل مثلاً. ثمّ إنّ القول بوجود "حبكة مسرحية" أو "صناعة مخابراتية" من شأنه إعفاء الواقع مما تفرّع عنه أو تبرئة الذات الجمعية مما قد يُنسَب إليها أو إلى بيئتها وثقافتها، بعزل حالات معيّنة عنها واعتبارها دخيلة أو مصطنعة. وتلحق بذلك خدمة مسعى الذمّ والتشويه؛ كأن يُعدّ كلّ زعيم كريه أو أسرة مستأثرة بالحكم دخلاء من طائفة أخرى أو إثنية مغايرة لا تنتسب إلى المكان أو الأمّة، أو أن يُعتبر الفصيل المُنافِس صنيعة معادية أو حبكة خارجية دُبِّرت بليْل، ومثل هذا تفعله دعاية الأنظمة و"طابورها السادس" في المنصّات الجماهيرية بمخالفيها لأجل نحرهم معنوياً على مرأى من الجماهير، فتصير حركات الإصلاح في منشئها من اصطناع الاستعمار وثورات الشعوب من تدبير الدول الكبرى.

 

إسقاط المنشود على المشهود

يبقى واضحاً أنّ الميْل إلى مقولات كهذه ممّا يستهوي أقواماً أغرقهم طوفان المواد المزيّفة بسلطانها المتعاظم على أذهان الجماهير، فيحرِّضهم على اختراع واقع يتصوّرونه أو نسْج تقديرات سابغة على ما كان وما سيكون في اتجاهات رغائبية تُسقط المنشود على المشهود؛ بحِيَل تأويلية لا تعجز الأذهانُ عن تلفيقها بصور شتى.

 

لا حاجة في هذا المقام إلى الغوْص في تهافت منطق الأحكام الجاهزة السابغة عن "المسرحيات" ونحوها، فهي في إجمالها الاختزالي تفقد الدلالة المحدّدة غالباً وتحتمل تأويلات وإسقاطات شتى يصعب ضبطها؛ فقد تحتمل في فحواها فرضيّات متعدِّدة ليست سواءً؛ كأن يكون الافتعالُ المحبوك المُستتر كلِّيّاً في ما جرى أو جزئياً في حلقة من حلقاته، أو أن يكون افتعالاً مؤسِّساً أو تدخّلاًَ استعمالياً أو تجييراً لاحقاً، أو قد يُعَدّ ضلوعاً شاملاً في المشهد أو موضعياً فيه، وقد يُحتَمل أنه معترك تتجاذبه أطراف شتى من وراء ستار أو يتولّى كبره شركاء متشاكسون، وهذا غيْض من فيْض التفريعات المحتملة بموجب حكم سطحيّ مُختزل يقول بـ"المسرحية" وأخواتها.

 

يقضي هذا، بالتالي، أن يكون الحكم السابغ الجاهز، القائل بالتمثيليات ونحوها؛ مُبهماً لدى محاولة تنزيله على حالات عدّة؛ وإنْ جيء به استسهالاً لحلّ الألغاز وفكّ الطلاسم وتفسير الغموض، وهو لا يقترح، تبعاً لذلك، أي خيارات واقعية للتصرّف مع الواقع القائم ومحاولة التأثير فيه سوى بإصدار الأحكام ومباشرة الذمّ.

 

عندما يرتد المنطق على أصحابه
التحذير من عقلية الميل التفسيري السابغ بالمؤامرة، على النحو الرائج الذي يستند إلى منطق خاص متعالٍ على استحقاق البرهنة وبيان التفاصيل وشرح الملابسات أو إمكانية التحقّق والتثبّت؛ لا يقضي بنَفْيُ حبْك "مؤامرات" في الواقع البشري

من المعضلات التي تجرّها هذه الأحكام أنّ استسهال الأخذ بها في حالة معيّنة سيفرض أسئلة حرجة عن مبرٍّر إغفالها في حالات نظيرة أو مشابهة. ثم إنّ الرضوخ لمنطقها كفيل بأن يُنشئ وَعياً يألف الجموح بأحكامه في غيرها إنْ تراءت له وجوه شبه في مقامات أخرى تُحمَل على الظنّ أو التوهّم. فما يمنع القوْل بأنّ أي زعيم آخر هو "صناعة مخابراتية" أيضاً، مثلاً، إن احتمل الحكم في هذه أو في غيرها الصحّة والخطأ، أو أنّ حدثاً آخر هو "مسرحية" أو أنّ موقفاً مغايراً هو "تمثيلية" كذلك؟

 

لا يتردد بعض المعلِّقين في نعت خصومهم بأنهم "صناعة مخابراتية"، ويحشدون لهذا الغرض شواهد وافتراضات يستعملونها بصفة تلفيقية لتعميم الاشتباه وإنجاز الإدانة. لكنّ أُولي التعسّف في الأحكام يغفلون عن أنّ منطقهم ذاته قد يُدينهم من حيث لم يحتسبوا أو قد يثير الاشتباه بهم بالطريقة ذاتها التي تقوم على التلفيق والتدليس وتضخيم الوعي بجزئيّات محدّدة على حساب غيرها. واقع الحال أنّ أحكام "المؤامرة" هذه كثيراً ما تتأهّل لأن ترتدّ على القائلين بها لأنّ منطقها التبسيطي قد يثير الاشتباه بما هم عليه أو بما يأتون به أيضاً، فيصير نعت "المؤامرة الخارجية" – مثلاً – لصيقاً بمن استعذبوا القوْل به إنْ جمعهم مركب واحد، ولو عرضاً، مع طرف خارجي في قابلات الأيّام، أو إنْ الْتَقَت مصالحُهم الظرفية مع الملأ في إحدى عواصم النفوذ الدولي؛ بصرف النظر عن السِّياقات الواقعة عموماً تحت ظل الهيمنة الخارجية.

 

إنّ الذين يُطلقون العنان لمنهجية الشكّ والارتياب ويدفعون بتأويلات فضفاضة لا ضابط لها؛ إنّما يفتحون أبواباً من الهوَس سيعجزون عن سدِّها من بعد إنْ ارتدّ المنطق ذاته عليهم وأجهز عليهم معنوياً. يفرض هذا حاجةً إلى التفصيل والتدقيق والبرهنة في مقام الوصف والتحليل والتأويل؛ حتى مع ما قد تبدو أمارات باعثة على الريبة أو تثير الاشتباه بتواطؤات مُستترة. كما يجدر إدراك معادلات قوى النفوذ الدولي وكيف تعمل مع الأطراف المتعدِّدة أو المتناقضة أحياناً، وقد تحاول استعمال كلٍّ منها لصالحها، فتكون خطوط الأنظمة مفتوحةً مع دولة كبرى سرّاً وعلانية بينما تباشر الدولة ذاتها ذاتها إظهار رعاية ما لمن يُحسَبون على ثورات ومعارضات تخاصم الأنظمة عينها؛ فأين تبدأ "المؤامرة" حسب هذا المنطق وأين تنتهي؟

 

الميل إلى التفسير الجاهز بالمؤامرة

يُلاحَظ أنّ أطراف الواقع العربي المتشظِّي تتراشق في شاشات الدعاية والتحريض وعبر خنادق التأجيج الشبكي بمثل هذه الأحكام السهلة؛ بما يضعها جميعاً في مرمى هذه المقولات النمطية تقريباً، بصرف النظر عن مدى احتمال الصحة أو الخطأ فيها، وهو ما يُذكي حمّى التضليل ويغذِّي الوعي الزّائف في المجتمعات؛ ولا تسلم بعض النُّخَب "المثقفة" ذاتها مِن مثل هذا.

 

قد تلحظ النظرة الفاحصة أنّ عقلية الميْل التفسيري السابغ بالمؤامرة؛ تُنشئ عالمها المتصوّر بمنطقها الخاصّ في نسج الأحكام؛ فلا يصلح معها نقاش ولا حجاج إن اعتدّت بمعاييرها الذاتية الوثوقية وتعالت على غيرها. ترغب هذه العقلية في رؤية الواقع على أساس تمايُز حدِّي لا يستسيغ الاعتراف بدرجات اللون الواحد مثلاً، ولا تشغله التفاصيل والجزئيّات التي تتقزّم إزاء حكم مُسبق؛ إلاّ بمقدار تجنُّدها في خدمة الاستنتاج الذي انعقد ابتداء؛ الذي يبلغ مقصده بطرق شتى مهما كانت المظاهر والمجريات، فتلتحق الأحداثُ بتفسيرها السابق عليها، ويُجرّد الواقع في هيئة معادلة مبسّطة من الدرجة الأولى؛ بين فاعل ومفعول به أو متغيِّر مستقل ومتغيِّر تابع؛ ولا شيء سوى ذلك تقريباً.

 

إنّ التحذير من عقلية الميل التفسيري السابغ بالمؤامرة، على النحو الرائج الذي يستند إلى منطق خاص متعالٍ على استحقاق البرهنة وبيان التفاصيل وشرح الملابسات أو إمكانية التحقّق والتثبّت؛ لا يقضي بنَفْيُ حبْك "مؤامرات" في الواقع البشري، فهذا من واقع التدبير غير المُعلَن أو الخداع المحبوك في حقول شتى في ماضي البشر وحاضرهم؛ لكنّ استسهال زعم "المؤامرات"، ومنه تعبيرات "المسرحية" و"التمثيلية" و"الصناعة"؛ يظلّ حكماً فضفاضاً وإنْ أشار إلى جهود وأحابيل ومساعٍ منهجية غير مُعلنة لا يخلو منها الاجتماع الإنساني أساساً، وقد أنشأت الدول أجهزةً مكلّفة بالعمل في الظلّ للاشتغال على مثل هذا.

 

إنّ ما يشغل عقلية الميْل التفسيري السابغ بالمؤامرة؛ أن تجود بتأويلاتها الخاصّة الجاهزة بما يُقعِد جمهورها عن أي تفكّر في خرائط التصرّف المتاحة مع مسارات الواقع المشهود وجزئيّاته، وهذا لأنها استساغت تشكيل مشهد متصوّر منفصل عن المرئيّ والمباشر غالباً وحافل بالغموض الذي يترك مساحات معتمة في الوعي. تتدحرج الحالة إلى أن تصير عقليةً مُعطِّلة للقدرات الذاتية بالميْل إلى تحييدها عبر إخراج الأدوار الذاتيّة من المعادلة لصالح "مؤامرة كبرى" ذات سلطان جامح؛ تنزع بعض نسخها إلى ما يُحاكي تأليهَ الخصم الذي يقتدر على مثل هذا وزيادة؛ بإضفاء قدرات فوق بشرية عليه أحياناً. إنها عقلية انكفائية تُطَوِّر إحساسَها الذاتيّ بالمظلومية والاستهداف وتفاقم عقدتها بالعجز والخسران، وقد تستعذب الألم الذي يطابق المخيال، بما يُغري بالقعود عن التصرّف في الملمّات؛ بدعوى أنْ لا طاقة لنا اليوم بالمؤامرة وجنودها.

 

"شواهد الإثبات" في تهافتها
غنيّ عن البيان أنّ رفض التسليم التلقائي برواية "المسرحية" أو "التمثيلية" أو "الصناعة المخابراتية"؛ لا يصحّ اعتباره تحيّزاً لطرف أُلصِقت به هذه الأحكام الرّحبة السّهلة؛ فهذا الاعتبار من شأنه أن يُجهِز على جهود التحليل ومساعي التقدير

من طبيعة مقولات "المسرحية" وأخواتها أن تتعقّب أي "شواهد إثبات" كي تُلحقها بأحكامها المُسبقة، فتتعلّق السردية بحجّة انتقائية تعمد إلى تضخيمها على حساب غيرها من الحجج، أو تذهب إلى تفسير الواقع كلّه من ثقب إبرة موضعية قد تتيحها دراسة معيّنة أو تقرير مخصوص أو خطة فريدة؛ تُستلّ دون غيرها من الدراسات والتقارير أو الخطط، علاوة على الاتكاء على وفرة من المواد المزيّفة أحياناً.

 

ومن عادة الأنظمة التي تخشى أنفاس شعوبها أن تسلِّط الأضواء على أيِّ مزاعم أو تخمينات أو مقولات تتيح وصم الجماهير بالتبعية لمخططات الخارج؛ بما يبرِّر الإقدام على السّحق والبطش والتّنكيل، حتى صارت مقولة "حروب الجيل الرابع" توصيفاً علموياً شائعاً لدى بعض من تقدِّمهم الشاشات السلطوية في رداء "الخبراء"، بغرض نعت مطالب الشعب العادلة بالتبعية للخارج، مع تجاهل واقع التبعية والارتهان الذي تعمل الأنظمة المعنية بموجبه. تعود مقولة "حروب الجيل الرابع" هذه إلى ويليام ليند الذي أطلقها سنة 1989 وواصل تبنِّيها بحماسة رغم انتقادات قوبلت بها في الأوساط المختصة؛ لمنطقها في افتراض تمرحُل الحروب وصولاً إلى "جيل رابع" الذي هو جيل "الحرب غير المتماثلة" بتعبيره. تعتمد هذه الحروب – حسب ليند – على مجموعات دون مستوى الدول؛ يما يقضي بتآكل مطّرد في نظام الحروب التقليدية المعروف بعد معاهدة ويستفاليا لصالح حروب غير نظامية. إنّ اعتبار "الحروب غير المتماثلة" بدعة استجدّت يغفل عن حروب الغزو الاستعماري وسياسات "فرِّق تَسُد" ومساعي التفكيك والتفتيت والتشظية التي أقدمت عليها قوى الاحتلال والهيمنة – كما لدى المسمّى "لورانس العرب" مثلاً – ويتجاهل في المقابل ثورات الشعوب على الغزاة ونضالات حركات التحرّر في أطوارها المتعاقبة.

 

لا يقضي هذا بنفي المقولات بإطلاقها؛ وإنما يستدعي الترفّق في التسليم بما يأتي به أحدهم أو بعضهم ولو ارتقت منصّته أو علت مرتبته في حقل مخصوص. نجد استراتيجياً آخر متحمِّساً لمقولة "حروب الجيل الرابع" يمنحها تأويلاً على طريقته، هو ماكس مانورينغ، الذي تحتفي دعاية الاستبداد بمقاطع من محاضراته لمجرّد أنها تعدّ "إثارة القلاقل" أسلوباً منهجياً لإضعاف الدول واستنزافها. يقضي هذا المنطق في دعاية الأنظمة برسم صورة مسرحية وخلفية تآمرية عن كلّ من يطالبون بالحرية والكرامة، فيُعَدّون مجرد أدوات "في حروب الجيل الرابع"، مع إعفاء الأنظمة المستبدّة من أي مسؤوليات في هذا الشأن، زيادة على إخراج الثورات المضادة بالأحرى من هذا التصنيف بإظهارها كمن يواجه "مسرحية خارجية" أو "مؤامرة كونية".

 

من الاستشهادات النمطية في هذا الصدد ما يتعلِّق بدليل عمل وضعه الأمريكي الراحل جين شارب، لتمكين الجماهير من الانتفاضة غير العنيفة على سلطات الاستبداد. وإنّ جاز القول بأنّ دليل العمل المقصود استُعمٍل حقّاً في اصطناع "ثورات ملوّنة" أو استثارة هبّات مصطنعة وموجّهة في بلدان أرادت الولايات المتحدة إحداث تغيير فيها؛ إلا أنّ الدليل عينه قد تستعمله انتفاضات الجماهير عموماً وقد يمنحها خيارات تكتيكية حصيفة في الميدان وإن لم يضمن لها إنجاز ثورة مكتملة. ثم إنّ التطبيقات المنسوبة إلى جين شارب هي في أساسها خلاصة خبرات تراكمت في بيئات البشر وليست اختراعاً مطلقاً كما يُحسَب، وإنْ قعّدها شارب ونظَمها منهجياً وسردها بصفة ميسّرة. كما أنّ تطبيق هذه الإرشادات في عدد من البيئات جعلها نماذج عملية مرئية للجماهير في غيرها بما أشاع استلهامها حتى دون العودة إلى هذا الدليل أو غيره.

 

دون التهوين من قدرات قوى النفوذ الدولي على استمالة نخب واصطناع حالات من بين الجماهير، وفي هذا مسالك معروفة وتجارب ماثلة للعيان؛ إلاّ أنّ ذلك لا يسوِّغ رَمْي كلّ من يستلهم خبرات الشعوب التي استخلصها شارب أو غيره بأنه صار عميلاً للخارج أو صنيعة استخبارية.

 

بين المؤامرة ونظريتها

آلَ الموقف، على أي حال، إلى مشهد عربي لم يسلم فيه أيُّ حدث كبير أو تطوّر جسيم من نعوت "المسرحية" أو "التمثيلية" أو "الصناعة الخفية"، وهذا متوقّع في بيئات يلفّها الغموض وتفتقر إلى الإفصاح والمساءلة. إنّ مَن يرتضي تشغيل هذا المنطق مع خصمه بلا برهان في يومه؛ قد تتهاوى حجّته إنً ارتدّ المنطق عليه في غَدِه على أساس تناظُر في بعض الأعراض التي اتّكأت عليها السردية التأويلية الأولى.

غنيّ عن البيان أنّ رفض التسليم التلقائي برواية "المسرحية" أو "التمثيلية" أو "الصناعة المخابراتية"؛ لا يصحّ اعتباره تحيّزاً لطرف أُلصِقت به هذه الأحكام الرّحبة السّهلة؛ فهذا الاعتبار من شأنه أن يُجهِز على جهود التحليل ومساعي التقدير ومحاولات الفهْم بأن يعدّها متحيِّزة إن سعت إلى توصيف شفّاف مجرّد عن أيِّ أحكام مُسبقة إزاء ما يجري؛ بعيداً عن مقولات سابغة متعالية على التمحيص. كما أنّ التحذير من الاغتراف من الأحكام الجاهزة على طريقة "نظرية المؤامرة" لا يعني نفي وجود سلوك تآمري في الواقع؛ فهذا مما لا يُنكر في تدبير السياسة وعمل الاستخبارات وفي غيرها؛ وإن تعذّر – غالباً – الجزم بحقيقة المُستتر في غياب القرائن والبراهين الكافية أو تشخيص تفاصيله وأبعاده.

 

من الشائع استساغة هذا النمط من الأحكام السهلة بمفعول خبرات منعقدة في الذاكرة الفردية أو الجمعية؛ فيكتسب مثلُ هذا رواجاً لدى جمهور ينتسب إلى بيئة تتزاحم فيها مخطّطات متوارية وتتقاطع فيها أدوار خفية وتتكثّف فيها حِيَلٌ وأحابيل عبر خيوط وتشابكات لا سبيل لإنكار وجودها أو تشخيص بعض آثارها؛ رغم انقطاع السُّبُل المفضية إلى وصفها تعييناً أو رصدها تحديداً. يعني ذلك أنّ القطع بتنزُّل خطط وأدوار بطرائق معيّنة على حالات مخصوصة دون إثباتات أو قرائن دالّة على ذلك يبقى تعسّفاً جسيماً أو تخميناً مُغالياً، وقد يؤتَى به مادّةَ تراشُق في بيئات الفراق والشِّقاق، أو ذخيرةً يَرمي بها كلُّ خندقٍ ما يقابله عبر جبهات الاحتراب وخطوط التّماس.

 

ما قد يُحتجّ به في هذا الشأن، من باب أوُلى، إنْ اختلط الأمر على القوْم؛ أنّ يفزعوا إلى تقدير الدّوْر الحاصل والأثر المنعقد؛ ففي فحص الأدوار والانعكاسات والنتائج والمآلات مندوحة عن تخمينات لا تلوي على شيء ولا ينهض بمخيالها الجامح بنيانٌ ثابت إلاّ مِن وَهْم مُحتَمل. لا يقضي هذا بالتسليم بمعيار مُضلّل يقضي باعتبار المستفيد من أمر ما هو مََن دبّره بلا ريب، حسب مقولات ساذجة يُحتجّ بها على غير بصيرة؛ من قبيل: "إنً أردتَ معرفة الفاعل فابحث عن المستفيد!" .. وتلك حكاية أخرى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.