شعار قسم مدونات

مسارُنا واضح.. إمّا ديمقراطيّة "من أسفلٍ" وإمّا إضرابٌ جماهيري!

blogs الجزائر

ربّما الكثيرون منّا ممّن شدّهم الحماس في بداية الحراك قد جَنحوا للصّمت الجزئيّ واكتفوا بمراقبة الأحداث وتصريحات بقايا شِرذمة السلطة وأذنابها بعد أن صار المشهد السياسيّ أكثر تعقيدًا يحتاجُ حنكة سياسيّ وتحليل مطّلع على كل الأوضاع؛ ذلك أنّ الضجيج الذي يصم الآذان، والتفاصيل التي أغرقتنا، يمنعاننا من تأمل المشهد في شموله لاستخلاص العبر وإدراك الآفاق الممكنة، وصارت كلّ كلمة نطلقها أمانة بل ومسؤوليّة لأنّها ستتجاوز دائرة الحماس والرأي الشخصي إلى دوائر التأثير على طبقةٍ لا بأس بها ممّن حولنا، في حين ظلّ البعض الآخر من أصحاب الفِكر العَكِر يخوضون مع الخائضين ويدسّون السموم في خطاباتهم ويهرفون بما لا يعرفون، حتّى طفى عفنُ أفكارهم على السطح وصار واضحًا للعيان، ولا لوم على الشّعب البسيط إن هو اتبعهم لأنّهم قد مارسوا أساليب التحايل في الخطاب… لكن ما لا يمكن السكوت عليه الآن هو محاولتهم تقسيم صوت الشّعب وسرقة ثورته منه بعد أشهر طويلة من النّضال، فقد تجاوزوا محاولة خلع رمزيّة يوم الجمعة عن الحراك إلى محاولة إسقاط الوحدة الشعبيّة بتقسيم الحراك وسرقة معناه، ومن يسرق المعنى يسرقُ الثورة أو يكاد!

 

وإنّه ليخيّلُ إليك وأنت تراقب المشهد السياسيّ للحراك وكل الألاعيب السياسية التي تمارس منذ أشهر إلى اليوم، وكأنّ مطلب تطهير أجهزة الدولة الموروثة من بقايا النّظام السّابق ورؤوس الفساد، وإخضاع تلك المؤسّسات للرقابة الديمقراطية -بالمعنى التقليدي للكلمة- مع إحداث تغييرات في بعض القوانين التي صِيغت طبقًا لمصالحهم، بات مطلبًا تعجيزيًّا أو معجزة لا يمكن تحقيقها. في حين أنّه مطلب عاديٌّ، يُقوّي الدولة ويرفع من كفاءة العمل ويضفي شرعيّةً على المؤسّسات بالتخلّص من ملامح الفساد فيها. لكنّ المعضلة الأساسيّة ليست هنا، وإنّما تكمن في الفكر الاستعباديّ الذي ألفته العقول فكفَرت بكلّ محاولة للتغيير وسلّمت مصيرها للواقع الذي فرضه عليها النظام بل وخضعت له، فمنهم من آمن بصوت الشّعب في البدايات ثمّ ما لبث أن تسلّل اليأس إلى قلبه فانصرف عنه، ومنهم من لم يؤمن به أصلاً، وكما سبق وقلت هؤلاء لا يعرفون معنى الثورات ولا شأن لهم بها، يظنّون أنّها قميصٌ يخلعونه ويلبسون قميصًا آخر، أو أنّها رحلة إلى منتزهٍ تنتهي عند الغروب، في حين أنّ مثل هذه المظاهرات لا تنضج ولا تؤتي أكلها إلاّ بعد سنواتٍ طويلة من الكفاح والإلحاح لأنّ جذور الفساد قد ضربت في أراضينا وامتدت إلى العُمق ومن ثمّ فاقتلاعها لن يكون بالأمر الهيّن، فلابدّ لها أن تمرّ بمراحل عجافٍ، وتتخلّلها فترات يأسٍ وإحباط، فيكون التمحيص؛ ليُعرف الصّادق من المنافقِ، والصّالح من الفاسد، والوطنيّ من العميل، وينسحب منها المتعجّلون، ويشمت الشّامتون، ويضطرب عندها البسطاء وضعاف القلوب..

 

إنّها لمهزلة سياسيّة لن يتبنّاها سوى أولئك الذين لم يؤمنوا يومًا بالتغيير الجماهيريّ. فالمعركة الحقيقية لهؤلاء الأذناب، وعلى رأسهم قائد الأركان "القايد صالح" هي الحفاظ على مضمون النّظام برغم تغيير الشكل، أو بتعبيرٍ أبسط

في حين كان على الذين آمنوا منذُ البداية بمبدأ "التغيير الجماهيري من أسفل" أن يثقوا بحقيقة أن الشعب يتعلّم من تجربته أوّلاً مهما طال مسارها واشتدّ، ومن تجارب من حوله ثانيًا ليكون التأنّي والحذر، خاصّة في ظل تجارب الثورات العربيّة السّابقة وعلى رأسها التجربتان المصريّة والسورية -على اختلافهما-، وجاحدٌ من ينكر ذلك. ثمّ إنّنا نعلم جيّدًا أنّ هذه المظاهرات الشعبيّة المبعثرة، بالرغم من الإمكانيات الثورية الهائلة التي تحملها بين ثناياها، ستظل مجرد "مظاهرات إصلاحية" في غياب البديل السياسي الذي يستثمرها في اتجاه تحطيم السلطة السياسية التي تحمي الاستغلال والفساد في مختلف مؤسسات الوطن والتي تستفيد منه في حقيقة الأمر. لكنّنا مع ذلك نفضّل الصمود في الشوارع ومتابعة ما بدأناه منذ 22 فبراير على المشاركة في مهزلة إعداد الصناديق الانتخابيّة التي لن تُسفر عن شيءٍ سوى عن النظام نفسه بأثوابٍ جديد. 

 

ولا يخفى على أحدٍ أنّ الحراك اليوم يعيش مفارقة واضحة، بين ما أنجزه من هدمٍ وما يُكافح من أجله من بناءٍ. فصحيحٌ أنّه نجح بسهولة نسبيّة في إسقاط "حكومة بوتفليقة" كنظامٍ توارثناه على مدى عشرين سنة والذي كان ليستمرّ لسنواتٍ أخرى لو لم نصرخ فبراير الماضي: "لا لعهدةٍ خامسة"؛ بعد أن أخذ أساسه الاجتماعي يتآكل حتى إنّ التناقض بين النّظام السياسي والمجتمع بأسره بات صارخًا. لكنّ الصّراع الآن ما يزال قائمًا حول شكل ومضمون "الحكومة الديمقراطيّة الجديدة" التي من المفترض أن تحلّ محلّ الحكومة البائدة، خاصّة وأنّ بقايا شِرذمة النّظام قد قرّروا الدخول في مواجهة مباشرة مع الشّعب بخلقهم لحراكٍ موازٍ داعمٍ لقائد الأركان والانتخابات في الوقت الذي مازلنا نصرخ فيه ملأ حناجرنا: "لا انتخابات مع العصابات"، وهي ذي الطبقة الحاكمة لا تحارب أبدًا بأجسادها بل بأجساد الكادحين الذين باعوا ضمائرهم، ليكونوا أذناب النّظام ومأجوريه، يسترزقون من النّظام ويتمُّ تجييشهم لقمع حراك إخوانهم في الساحات والشّوارع، والخوف أن تتفشّى هذه الأذناب بيننا أكثر فتصبح أصواتنا متأرجحةً بين حراكٍ وحراكٍ مضادّ.

 

وإنّها لمهزلة سياسيّة لن يتبنّاها سوى أولئك الذين لم يؤمنوا يومًا بالتغيير الجماهيريّ. فالمعركة الحقيقية لهؤلاء الأذناب، وعلى رأسهم قائد الأركان "القايد صالح" هي الحفاظ على مضمون النّظام برغم تغيير الشكل، أو بتعبيرٍ أبسط: صبّ العفن القديم في قنينة جديدة!، فالديمقراطيّة التي يدعو لها النّظام اليوم لم تكن يومًا نفسها الديمقراطية التي نُطالب بها نحن، فهو يدعو إلى "ديمقراطيّة برجوازيّة" ذلك النموذج من الديمقراطيّة الذي يخدمُ مصالحهم وفي الوقت نفسه يسكت الشعب ويمنعه من إثارة المتاعب، نموذجٌ خِيط على مقاس الأسياد والملاّك وأصحاب المقامات الرّفيعة، في حين نُطالب نحن بديمقراطيّة من أسفلٍ يصنعها الكادحون بنضالهم وصمودهم لإعادة تأسيس المجتمع من أسفله إلى أعلاه.

 

إنّ هؤلاء الأذناب المستأجرين وحتّى أولئك الذين ضيّعتهم تصريحات وسائل الإعلام الفاسدة التي لا تصنع الوعي بل تزيد من تيه المواطن الكادح والفلاّح البسيط المبعد عن المشهد السياسي الحقيقي، لا يريدون الاعتراف بأنّ نزاهة صندوق الانتخابات في ظلّ هذه المسرحيّة الهزليّة وعلى أساس مجتمع قائم أصلاً على الاستعباد والتراتب الطبقيّ لا تأتي إلا بالعفن، بل إنّ حريّة الصّوت الانتخابي في ظلّ هذه الظروف ليست إلاّ وهمًا كبيرًا؛ وكأنّهم يريدون السير بنا إلى الخلف فبعد أن أسقطنا نظامًا فاسدًا للنّهب والتجويع، وجدنا حناجرهم تصبو إلى نظام آخر  للنّهب والتجويع والتهريج أيضًا، باختيارهم "الحر" بحسب زعمهم، فمن ذا الذي سينتخب قادة الجيش، أو رجال حكومة أو الوزراء السابقين الذين كانوا يومًا ما جزءًا من النّظام، من سيُدلي بصوته لرجال الأعمال، أصحاب الشركات والمصانع والمؤسّسات المتحكّمة في أرزاق الملايين والتي نهبت المليارات من البلاد… لا أحد! فهؤلاء ينتخبون بعضهم البعض ويدعمون بعضهم البعض. ومن ثمّ فلا حق للشّعب الكادح في مراقبتهم أو مقاضاتهم أو إقالتهم من مناصبهم…

 

ولو أنّ هذا الشعب فقط يدرك أنّ المشاركة في الانتخابات تتطلّب بدايةً مساواة في الموارد والإمكانيّات لكل المترشحين، وهذا يستوجب تجريد رجل الأعمال من ثروته المالية ورجل الدولة من نفوذه وشبكة علاقاته؛ لأنّ هؤلاء يستطيعون بحركة بسيطة اقتطاع جزء من أموالهم ونفوذهم لشراء الأصوات والتربّع على السلطة، فعن أيّ انتخابات ونزاهة تتحدّثون! اليوم وبعد شهور عديدة من النّضال الجماهيري السياسي، أظنّ أنّه حان وقت التّصعيد ومزاوجة هذا النضال السياسي بآخر اقتصادي وهو الخطوة التي يسعى إليها المناضلون غالبًا من خلال بَدأ إضرابات شاملة تشلُّ مختلف قطاعات الدولة لفرض سلطتهم، وحتّى تلعب هذه الإضرابات دور مِعْول الهَدمِ عليها أن تتزامن مع حركة ثوريّة شاملة في شوارع الوطن بطولها وعرضها لتكون بذلك نقطة الارتكاز السياسيّة في الشوارع فتُعطي للإضرابات بُعدًا ومعنىً سياسيًا وتحوّلها من مجرد نضالات اقتصادية ضدّ الفساد إلى قوة هائلة عازمة بإصرار لا يلين على إسقاط النظام السياسي.

 

سيجسّد الإضراب الجماهيري في ظلّ هذه الظروف معنى "الديمقراطية" بكلّ معانيها؛ فعندما يُضرب عمال المؤسسات والشركات ومختلف القطاعات الحكوميّة والخاصّة ويتجهون إلى الساحات، فهم بذلك يطرحون دون وعي منهم سؤالاً تتمحور حوله القضيّة الحقيقية: من صاحب الحقّ في تقرير مصير الشّعب في هذا المجتمع الآن؟ هل هم شرذمة السلطة أم نحنُ جمهرة الكادحين؟ لكن علينا ألاّ نكون حالمين تمامًا وواهمين، فتمتينُ معنى هذه الديمقراطيّة من الجماهير الشعبيّة لا يمكن أن ينجو بذاته دون استخدام مخططات معقّدة لأن أيادي النّظام أو الألاعيب السياسيّة لابدّ وأنّها ستطاله بطريقة ما. ربّما هنا علينا أن نرفع مقولة "علينا أن نتحلى بتشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة"، كشعارٍ لنا في الفترة القادمة.

 

لكنّي أثق أنّ هذا الشعب يُدرك جيّدًا معنى الانسحاب وترك النّضال في هذه المرحلة بالذات، كما أن الجماهير التي ذاقت حلاوة نضال الشارع وفهمت معنى تمكين "المواطن البسيط" من الإمساك بزمام مصيره بيديه، وجعله "فاعلاً" في حين كان لسنواتٍ طويلة "مفعولاً به" دون حولٍ ولا قوّة مستبعدًا تمامًا من مواقع القرار. لن يكون سهلاً عليها أن تنسحب من الشوارع لتنتظر إعداد الصناديق الانتخابية التي تتسلّل إليها -كما العادة- أيادي النظام. حراكنا يحملُ وعودًا لم نكتشفها بعد، وهي أكبر بكثير من تقزيمها في مجرد تغيير السطح السياسي للعفن القديم نفسه، لذا علينا أن نستمرّ في نضالنا، ولنتذكر دائمًا أن عجلة التغيير والثورة لا تنتظر أحدًا، ولا تتوسّل أحدًا!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.